من الممرّضة البطلة باميلا زينون رسالة إلى اللبنانيين وذكريات قاسية!
من قلب الدمار الذي عاشته بيروت بعد الإنفجار الكبير الذي هزّها، قصص كثيرة برزت أظهرت معاني الإنسانيّة بأجمل صورها، وقد اخترنا التعرّف إلى البطلة الممرّضة باميلا زينون التي انتشرت صورتها وهي تحمل 3 رضّع بين يديها في محاولة لإنقاذ حياتهم.
تضع المرأة بين يديك قطعة من قلبها ولا سيّما أن الأطفال الخدّج يقضون وقتاً طويلاً لديكم في المستشفى، إلى أي مدى تتعلقين بالصغار وتشعرين أنّهم مسؤوليّتك؟
طلبت هذا العمل منذ أن أنهيت دراستي في التمريض، وأردت العمل مع الأطفال وبدأت منذ حوالى ست سنوات.تعلّقت بهذا القسم كثيراً وازداد تعلّقي بالصغار مع الوقت. إذ أعتبر أنّ رسالتي هي خدمة الأطفال من عمر الصفر، وأؤلئك الذين يولدون قبل الأوان حتّى يبلغون 14 سنة، ولا سيّما المرضى القريبين من الموت. فهم يحتاجون الدعم والمساعدة أكثر من غيرهم، أمّا أهلهم فهم بأمسّ الحاجة إلى السند القويّ الذي يعيلهم في هذه المرحلة. وبالتالي أعتبر كل طفل يمر لديّ مسؤوليتي فأحبّه وأتعلّق به.
هل تخيّلت للحظة واحدة أن تكوني السبب في نجاة 3 منهم من الموت؟
كل ما حصل معي جرى فجأة ولم أتخيّل ولو للحظة واحدة في حياتي أن يحصل كلّ هذا، فالأمر أكبر من قدرتي على الاستيعاب، لكن الغريزة أو ربّما الواجب أو العاطفة أو كلّ ما سبق وذكرته، حرّكني باتّجاههم ودفعني للاجتهاد والسعي الدؤوب لأنجو بنفسي وبحياتهم فأحملهم على الأدراج إلى الأسفل وأحصل على المساعدة لنقلهم إلى مستشفى آخر للتأكّد من سلامتهم. اليوم أنا سعيدة لأنّ ما قمت به جعل الناس يقدّرون مهنة التمريض ويفهمون رسالتنا وازداد احترامهم لمجهودنا ولتعبنا في خدمة المرضى الذين نتعامل معهم كل يوم.
هل كنت تعتقدين أنّك تملكين هذه القوّة، ومتى ضعفت أو انهرت بعد كل ما حدث؟
الممرضات العاملات في هذا القطاع، ومع الأطفال تحديداً، قوّيات أكثر من غيرهم. فنحن نرى الموت كلّ يوم وتأقلمنا مع صعوبته، ولذلك لم أضعف بالرغم من قسوة ما عشته. ربّما ما ساعدني هو أنّني أدرك تماماً أنّني أنقذت هذه الأرواح البريئة، فوضعت الرضّع بنفسي في غرفة عناية في مستشفى آخر وتأكّدت من سلامتهم وأوصلتهم بخير إلى أهلهم، الأمر الذي مدّني بقوّة كبيرة وساعدني لأتقبّل الصدمة وأتخطّاها. لا أعتقد أنّني سأنهار، فمهمّتنا تقضي بالاستمرار ومساعدة من حولنا والتأكّد أنّهم بخير واسترجعوا قواهم.
ما هي الأفكار التي كانت تجول في بالك وأنت تدخلين الغرفة بعد دمارها، وكيف تمالكت أعصابك لتحملي الصغار وتغادري المكان بالرغم من الخراب السائد؟
بعدما تأكّدت أنّني بخير وقادرة على السير كنت خائفة أن أجد طفلاً في الحاضنة مجروحاً أو مصاباً بأذى كبير ولا سيّما أنّ مشهد الغرفة كان مرعباً بسبب حجم الدمار. لكن المعجزة أنّ الجميع كانوا بخير، فكنت كلّما أقترب منهم وأُزيل الركام المحيط بأيّ سرير، أجد الطفل إمّا نائماً أو ينظر إليّ. فكانت ردّة فعلي الأولى أن أحملهم، واستطعت أن أحتضن 3 منهم وكنت طوال الوقت أتأكّد أنّهم بخير. كانت هذه اللحظات طويلة وصعبة إنّما المهم أنّ النهاية كانت جميلة لهم ولأهلهم.
كيف عدت إلى الحياة الطبيعيّة؟ وما أكثر ذكرى تؤلمك من الحادث؟
الحياة لم تتوقّف، فهي تستمرّ وهذا ما يجب أن يحصل كي لا يسبّب هذا الحادث الأليم المزيد من الخسائر سواء من الناحية المعنويّة أو النفسيّة أو الماديّة.إذ عدت إلى دراستي وأحضر الأبحاث والمشاريع المطلوبة منّي في الجامعة. لا أنكر أنّ الغصّة في قلبي كبيرة والذكرى لا تفارقني والمشاهد القاسية والمؤلمة تتكرّر في ذهني، إلّا أنّني أحاول إبعادها والاستمرار في ممارسة روتيني لأتقدّم إلى الأمام ولا أقع فريسة القلق والكآبة والأفكار السوداء.
هل تزورين الصغار وتطمئنّين على وضعهم؟
كل يوم أتصل بأهلهم وأطمئن على أحوالهم، إذ باتوا جزءاً مني وبمثابة شركائي في هذه التجربة. فنشأت علاقة خاصّة ووطيدة بيني وبين أهلهم إذ زرتهم مرّة في البيت وتأكّدت بنفسي أنّهم بصحّة جيّدة. فأنا سلّمت أمّاً ملهوفة على صغارها، سلّمتها فلذات كبدها وهي اليوم مقرّبة منّي.
أصبحت بطلة بين ليلة وضحاها، ماذا يقول لك الناس وما أكثر تعليق أثّر فيك؟
أكثر ما أثرّ فيّ هو اعتباري بطلة، هذه الصورة الجميلة التي رسمها الناس عنّي أسعدتني كثيراً.لكنّني أؤكّد أنّني لست كذلك، فأنا ممرضة قامت بواجبها وخدمت رسالتها. أحببت جداً رسائل الدعم والتشجيع التي تلقّيتها من الدول العربيّة المجاورة، وأحسست أنّهم يقفون فعلاً إلى جانبنا، إذ شعروا بحجم المأساة التي حلّت بنا وسارعوا إلى نجدتنا وتابعوا تفاصيل ما مررنا به. هذا الدعم المعنوي الكبير ساعدني كثيراً وأعطاني القوّة والثبات النفسي للإستمرار.
كيف استعدت توازنك النفسي لتستمري في حياتك؟
الدعم المجتمعي مهمّ جداً وأنا تلقيته على نطاق واسع، فهذا التقدير من كلّ من حولي بالإضافة إلى لمساعدات التي تلقيتها على الأرض يوم الإنفجار لأتمكّن من إنقاذ الصغار، كلّ هذه التفاصيل مدتني بالقوّة وجعلتي قادرة على الاستمرار.
ماذا غيّرت هذه التجربة في حياتك وشخصيّتك؟
أصبحت أقوى بكثير وأعيد الكرّة 100 مرّة لو اضطررت، وهذه المرّة لن أحمل 3 أطفال بل سأحمل 10، فقوّة الإنسان الحقيقيّة تكمن في تماسكه وقت الأزمات. بالتأكيد أتمنّى ألّا يتكرّر ما حدث في بلدي أو في أي مكان آخر، إنّما علينا مواجهة ما ينتظرنا وألّا نضعف أو نسمح لحدث أليم أن يوقفنا ويقضي على طموحاتنا ورغبتنا بالعيش لنعيد إعمار ما تهدّم سواء في داخلنا أو في مدينتنا.
ما هي رسالتك للممرّضات العاملات في هذا المجال الإنسانيّ وللفتيات الراغبات في شقّ الطريق نفسه مستقبلاً؟
شكراً على المجهود الذي تبذلنَه طوال الوقت، صحيح أنّنا نشعر بعدم التقدير أحياناً إنّما سيتغيّر ذلك وقد تغيّر بالفعل في مجتمعات عدّة وما حصل معي هو خير دليل. لذلك ثابرنَ في العطاء وتأكدنَ أنّ ثمّة من يرى ويقدّر. وأقول للشابات هذه مهنة رائعة فلا تتخلّينَ عنها أو تخفن من صعوباتها، فتقديم المساعدة للمريض يعطي إحساساً مميّزاً لا يوازيه أيّ شيء في العالم.
صورتك باتت رمزاً للأمل بعد هذا الحادث القاسي، فماذا تقولين لتقولي لأبناء بلدك إنّ الحياة تستمر والجيل الجديد ربّما قادر على صناعة التغيير؟
أقول للشباب اللبناني إنّنا شعب قويّ، تمكّنا من لملمة جراحنا وبدأنا إعادة الإعمار بمفردنا، المهم أن نبقى معاً ونساعد بعضنا البعض لنتغلب على محننا ونصنع مستقبل أفضل.
اقرئي أيضاً: مـن بين الركام...لحظات محفورة في ذاكرة المصمّمين وأمل بالنهوض من جديد