الفنانة التشكيلية بلقيس الراشد: المرأة السعودية رائدة في الصناعة الإبداعية ودورها في تزايد مستمر

حين قصدت بلقيس الراشد الجامعة الأميركية في بيروت للدراسة، كانت تنوي التخصص بالطب ولكنها لم تقاوم رغبتها الداخلية باختيار مجال إبداعي فكان التصميم الغرافيكي. تقول "لقد تعلمت أن أنظر إلى العملية الإبداعية من خلال العدسات النظرية والمفاهيمية للبحث والتطبيق". في لبنان أرض الغنى في النشر والطباعة والتصميم والديناميكية الحضرية والمشهد الاجتماعي المختلف، تسنى للشابة السعودية صاحبة صفحة notreallybalqis على إنستغرام، تكوين شخصية فريدة بحيث كانت حرة في احتضان اختلافها واختباره والتعلم منه والنمو معه، لتعود محمّلة بالكثير من الأفكار إلى بلدها وتبدع أعمالاً رفعت اسمها إلى أعلى المصاف في الساحة الفنية.

تختارين وسائط فنية كثيرة للتعبير عن نفسك، فأيها الأقرب إليك؟

إنها تتغير باستمرار. فتفضيلاتي غير ثابتة بالعموم. ويتمثل الأمر بشكل رئيس بمنح الأولوية للوسيط الذي سيوصل الفكرة بشكل أفضل. في الوقت نفسه، من المهم بالنسبة إلي أن أبقى منخرطة وعلى علم بكل ما هو جديد. وإحدى الطرق لذلك هي اختبار أشياء جديدة باستمرار وتحدي نفسي لاستكشاف وسائط مختلفة بانتظام. وبالطبع، يلعب التعليم الذي تلقّيته وأسلوب حياتي دوراً رئيساً أيضاً، إذ أستخدم الكثير من الأدوات التي تعلمت عنها في كلية التصميم للتعبير عن نفسي، لكنني أيضاً أسافر كثيراً، لذلك من المهم بالنسبة إلي أن أكون قادرة على نقل عملي معي أينما ذهبت. وفي الآونة الأخيرة، كنت مهتمة أكثر بابتكار أعمال لا تتطلب مساحة كبيرة. فإنشاء أشياء مادية ضمن مساحة محددة يتطلب ميزانية أكبر، تتنوع بين الإيجار والمواد والموارد وما إلى ذلك. كما يتطلب التواجد باستمرار في مكان واحد. واكتشفت أنني في نهاية المطاف أشعر بالارتباط الشديد بهذا الغرض، ويستنزفني بدلاً من إلهامي أو تحفيزي. وعوضاً من ذلك، كنت أعمل بشكل فاعل على مشاريع تستدعي عكس أن يتملّكك الغرض، بل أفضل أن تحوّلني التجارب. وبالنسبة إلي، يتجلى ذلك عادةً في شكل عابر، وسريع الزوال، ورقمي. ويتميز بجودته المرحلية وغير الدائمة التي اكتشفت أنها تُعدّ أكثر تشويقاً في تصوّرها وإحيائها.

بجرأتك وقوة شخصيتك وأفكارك التحررية، مهدت الطريق أمام جيل من الفنانات السعوديات الشابات اللواتي رغبن ببعض الحرية للانطلاق، من اين حصلت على هذه الشجاعة؟ وهل هي صفة مكتسبة ام ترافقك منذ سنوات؟

صحيح أنني نشأت في كنف بيئة وعائلة غير تقليدية، إلا أن الكثير من هذه الظروف لم تكن من اختياري، ومع ذلك كان لها تأثير عميق علي كما ذكرت سابقاً. وكنت محظوظة بما يكفي لتلقّي التعليم الذي تلقّيته وتزويدي بالأدوات التي أحتاجها للنجاح. ولن أنسب الفضل لي في تمهيد الطريق لأي شخص، لكنه لشرف لي أن يرى الناس الأمر بهذه الطريقة، وأنا ممتنة لذلك. ومع ذلك، أواجه مشكلة في التسميات، مثل الليبرالية أو المنفتحة أو غير ذلك. وأعتبر أن الشجاعة هي عقلية تتطلب التثقيف والتواضع، وإدراك ألا أحد يفعل أي شيء بمفرده، إنها القوة للبحث عن الآخرين ودعمهم وبدورهم سيوفرون لك القوة لتكوني مقدامة. وفي النهاية، الأشخاص هم مَن يلهمون الأشخاص، وهذا ما نفعله كفنانين. نحن نلهم الشجاعة. ولقد ألهمني الآخرون أيضاً. وكوني اشتهرت بهذه الطريقة، لا ينتقص ذلك من فنانين رائعين آخرين في السعودية ألهموني لأبدع. وإذا كان عملي مصدر إلهام للآخرين، فأعتبره فضلاً وأنسبه للفنانين الذين سبقوني، ولقوتهم التي ألهمتني التحلّي بالشجاعة.

التعبير الحركي ورقص الهيب هوب بالحجاب كان علامة فارقة في حياتك، لماذا اخترت هذه الطريقة في التعبير، وكيف تلقى الناس أسلوبك؟

A State of Play بالتحديد هو أداء مستمر يعتمد على سلسلة فيديو تختبر الدلالات والمعاني من خلال حركة الجسم. ويتحدى النظرة من خلال مفاهيم مسبقة تجاه الأنوثة والهوية والظهور العام. ويجمع العمل الفني بين الطوق hoop، الذي هو في الأساس لعبة طفل، وامرأة محجبة كانت في ذلك الوقت العلامة الثقافية الأكثر شهرة للأنوثة في المملكة العربية السعودية ومثلت إخفاء هوية الجسد الأنثوي في الأماكن العامة. وجاء هذا العمل بعد فترة وجيزة من عودتي إلى السعودية في العام 2010 وكان مدفوعاً باهتمامي في الكشف عن الطريقة التي تعمل بها الأشياء بين ثنائية كل ما هو عام وخاص. وأعتبر المكان العام مساحة تحكمها السلطة، بنظرة الآخرين، بينما المساحة الخاصة هي مساحة شخصية وخالية من السلطة. وكنت مهتمة أيضاً بظهور المرأة وبتخفّيها في الأماكن العامة والخاصة، مما جعلني أرغب في استكشاف ما تعنيه هذه الأماكن. ونظراً إلى أنني عشت في أماكن مختلفة، شعرت أن الكثير من الأنظمة المختلفة التي وُضعت فيها كانت مليئة بالشوائب، ولهذا السبب كانت ممارستي المبكرة تركز على نفسي وعلى علاقتي بتأثير النظرة. ومن خلال رؤيتي الشخصية، اختبر عملي باستمرار مسائل اللياقة وعدم اللياقة، وحدود المسموح والممنوع. ويقدم الشكل الاجتماعي السياسي، والتباين بين ارتداء الحجاب ولعب الهولا هوب، مفهوم الاختيار، وأن تختار المرأة أن تفعل ما تريد القيام به. إنه خطأ فقط عندما يتم فرضه من قبل المجتمع. الهدف هو أن يكون لديك الخيار. في ذلك الوقت، كان Instagram عبارة عن منصة جديدة صاعدة، ومساحة عامة شيّقة يمكن الوصول إليها من داخل المساحة الخاص. وسمح لي العمل باستكشاف هذا الجانب الجديد من العلنية التقنية الاجتماعية في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي والثقافي لتجارب المرأة السعودية. وفي البداية، لاقى العمل انتشاراً واسعاً، بحيث استهلكه الناس للترفيه والاستمتاع به، وتعديله، ونسخه، وإنشاء إصدارات مختلفة منه. وما كان لافتاً هو التحول الذي مرت به هذه القطعة مع الوقت: تم استنساخ الصورة، وإعادة مشاركة تعديلاتها، ومع مرور الوقت تغيرت وتحولت إلى شيء مختلف. بعد ذلك، تطورت عندما تم عرضها على حساب Instagram الرسمي، مما أدى إلى جذب ملايين المشاهدات وتفاعل جماهيري لا حدود له. وفي هذه المرحلة، دخلت A State of Play المجال العام من داخل المساحة الخاصة، فعكست لحظة ثقافية مهمة في تاريخ المملكة العربية السعودية. ومن خلال السماح للجمهور بالمشاركة في العمل، باتوا مشاركين فاعلين أيضاً، ما أدى إلى إنشاء حوار حيوي ومثير للجدل ومهم، وكل ذلك بنظر الجمهور. كما تنبأت A State of Play بالتحول في الموقف تجاه الترفيه في المملكة العربية السعودية الذي نشهده اليوم. إذ تسلط الضوء على استخدام اللعب كوسيلة لتوليد أفكار مختلفة في سياق معين والتجديد الثقافي المحتمل الذي تحمله هذه الأفكار. واليوم بات لدينا خيار ارتداء الحجاب والتحرك بحرية. ولدي فضول لمعرفة كيف يتم دمج هذا التحول في وجهات النظر لدى جيل جديد خاصةً مع الثورة الرقمية التي تسرع هذه العمليات.

لماذا يصعب على مجتمعاتنا حتى اليوم تقبل الاختلاف، هل لأن النقد أسهل من فهم الآخر، أم لأننا محملون بالكثير من الأفكار البالية التي تعيق فرص تحررنا وتقدمنا؟

"مجتمعاتنا"، "تقدمنا"، "تحررنا"، "عدم القدرة على تقبّل الاختلاف"، كل هذه بقايا لعقلية مستعمرة تجعلنا (أفترض أننا نحن "العرب") نعتقد أننا بطريقة أو بأخرى على درجة متدنية من السلم العالمي للتطور الاجتماعي والثقافي. ويختبئ في هذه العبارات افتراض بأن هناك شخصاً آخر نقارن أنفسنا به، وعادةً ما يُلمّح إلى الغرب "المتفوق". وإذا تعاملنا مع ثقافاتنا، رغم تاريخها وتقاليدها الغنية والنابضة بالحياة، بشعور بالدونية وكره الذات، فهذا هو المكان الذي سنبقى فيه. وينطبق هذا الظرف على جميع المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم. وتعمل جميع الثقافات والبلدان والمجتمعات وفق أيديولوجيات معينة. بدلاً من ذلك، يجب علينا، مثل أي شخص آخر في أي مكان آخر، أن نحافظ على تركيزنا على إدراك حين تقودنا تحيزاتنا وافتراضاتنا وأن نقاوم الوقوع ضحية لها بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك.

فنك جديد ومختلف وذو معان متشعبة، هل يهمك أن تصل فكرتك من أي عمل فني أم تفضلين أن يفهمها المتلقي بطريقته الخاصة؟

أحاول دائماً توفير مساحة كافية للجمهور للتوصل إلى تفسيراتهم الخاصة. وأحد الدوافع الرئيسة وراء عملي هو أهمية توليد استجابة عاطفية لدى جمهوري. ولأجل ذلك، أدمج الطقوس، واستخدام المراجع المألوفة، و/أو أعتمد على الأسطورة، غالباً في محاولة للاستفادة من هذه اللغة والذاكرة الجماعية. وعلى سبيل المثال، أتناول الطقوس والتقاليد كشكل من أشكال الذاكرة التي يتم نقلها من جيل إلى آخر. وأستخدم هذه العناصر لتوليد حالات عاطفية معينة، لكن الأمر متروك للجمهور في كيفية إدراكهم للعمل. ومع ذلك، لأنني دائماً على دراية كبيرة بالجمهور، وأضعهم أحياناً في مكانة المشاركين، أو مصادر الإلهام، أحب دمجهم في العمل، للسماح لهم بتنشيط المساحة كما يريدون، ومنحهم القوة للقيام بما يُفترض ويُنتظر أن يفعلوا.

هل تحتاجين إلى حالة معينة أم يمكن أن تستوحي من أي مشهد أو شكل أو متى وكيف تبدئين مشروعاً جديداً؟

يعتمد ذلك على نوع المشروع. إذا تم تكليفي بعمل معين، فعادةً ما يكون هذا العمل محدداً بالسياق أو الموقع. لذلك، عادةً ما أغوص في المكان، في البحث، أو الموقع من أجل استخلاص الموضوعات ذات الصلة. وعندما يتعلق الأمر بعملي الخاص، فإن العملية تكون أقل تحديداً من الناحية الهيكلية. وفي أوقات مختلفة، أهتم بدوافع أو موضوعات معينة، مثل الخاصة والعامة، والمقدس والدنس. والآن، على سبيل المثال، أنا مفتونة بسرد القصص وبالطعام. وبينما أختبر هذه الأفكار، أحاول تتبع أفكاري وأبحاثي من خلال تدوينها، وأتصور هذه الأفكار وأُعيد صياغتها باستمرار. وتبدأ الأمور بالاتضاح ببطء وأكتشف اتجاهاً جديداً لأتخذه.

مع دخولنا عصر ميتافيرس ما رأيك بأهمية الفن الرقمي وهل تؤمنين بضرورة هذا التطور في عالم التكنولوجيا وتأثيره على مختلف الفنون؟

الثورة الرقمية مستمرة منذ سنوات، وستواصل النمو مع مضيّنا قدماً. ومع كل ابتكار جديد، سواء كان للكتابة، أو الصحافة، أو البرقيات، أو أجهزة الكمبيوتر، أو الإنترنت، وما إلى ذلك، هناك ضجة مفادها أنه سيغير العالم بشكل لا يمكن التعرف عليه. وكان الفن الرقمي والثورة الرقمية جزءاً من مجال عملي لعقود من الزمن، وكما هي الحال دائماً، فإن أفضل نهج هو النظر إلى هذه التحولات كفرص للاختبار واللعب والمشاركة. إنها مجرد أدوات مفيدة وشيقة. وفي نهاية المطاف، يقوم المبدعون والفنانون بتنمية حرفة ما من خلال الأساسيات والممارسة، وكلاهما سيظل محورياً.

ما رأيك بالتواجد النسائي في المجالت الثقافية والفنية وما الذي ينقص لتعزيز تواجد المرأة في هذه المجالات وتشجيعها على القطاعات الإبداعية؟

لطالما كانت النساء حاضرات في هذه المجالات. وفي المملكة العربية السعودية، كانت المرأة رائدة خاصة عندما يتعلق الأمر بالصناعة الإبداعية. ومن المهم أن نلاحظ أنه في السنوات القليلة الماضية، كان هذا الحضور يتوسع، في كل من المملكة العربية السعودية ودول أخرى في المنطقة بسبب التحول إلى تجربة المستخدم الرقمية. وهناك تحول مهم آخر وهو تركيز المملكة على دعم الصناعات الإبداعية، الذي أعتقد أننا سنشهد نتيجته في العقد المقبل. وأعتقد أن الجانب الأهم هو ضمان الدعم المستمر للفنانات من خلال توفير الفرص ودعمهن في تعزيز أصواتهن الفريدة والاحتفال بإنجازاتهن ونجاحاتهن. وبمجرد أن يكون لدينا قدر كبير من قصص النجاح، سوف تلهم المزيد من النساء للتعبير عن إبداعاتهن.

إلى أي مدى يرتبط الفن بالتاريخ، وكيف يمكن للفنانين والبدعين تسليط الأضواء على مزايا المملكة والمساهمة في نشر تراثها وحضارتها العريقة؟

هذا يعتمد دائماً على الفنان واهتماماته. إذا كان مصدر الإلهام سياقياً، فمن الطبيعي أنه مرتبط بتاريخ هذا السياق وتطوره. وأعتقد أن الفنانين والمبدعين مسؤولون عن ابتكار أفضل فن ممكن، وليس الفن الذي يعتقدون أنهم سيجذب الجمهور. وبعد كل شيء، الهدف هو تسليط الضوء على الإمكانات غير المستغلة للسعودية والخيال الإبداعي والمواهب ووجهات النظر الفريدة كجزء من الحوار الفني المحلي والعالمي، وأن المملكة بطبيعة الحال جزء من العالم، وأننا في نهاية المطاف مواطنون في هذا العالم. وبدلاً من مجرد إلقاء الضوء على ثقافتنا، فإن دور الفنان هو أن يستلهم من تراثه وتقاليده، لكن أيضاً سد الفجوات الثقافية، وإقامة روابط لم يتم إرساؤها من قبل، والسعي لخلق عمل ملهم هادف يمكنه الوصول إلى اللغة الجامعة للبشرية، والحرص على أننا لسنا فقط عالقين في تجدد أمجاد الماضي، إنما نحن أيضاً أعضاء فاعلون في هذا الخيال العالمي. ولا يعكس الفن الثقافة فحسب، بل لديه أيضاً القدرة على تغييرها من خلال عكس هويتنا ومن نطمح لأن نكون ومخاوفنا وتناقضاتنا وما إلى ذلك. لقد تم إنجاز الكثير من العمل، لا سيما من قبل وزارة الثقافة التي عملت بجد في وضع السعودية على الساحة الوطنية والعالمية. ويطيب لنا أن نرى هذا التحول في التركيز على الفنون والثقافة وهو يسلط الضوء على اعتراف الوزارة بقوة وأهمية التبادل الفني والثقافي لمستقبل المملكة.

ما هي رسالتك لمناسبة اليوم الوطني السعودي؟

لدى مملكتنا فائض من الثقافة والتراث والإلهام للاكتشاف والمشاركة مع بعضنا البعض ومع العالم. إن المشاركة في الكشف عن هذا الفائض ومناقشته والاحتفاء به تُعدّ واجباً وشرفاً.

اقرئي المزيد: نجود العتيبي: أحاول أن أعكس أجمل صورة عن السعودية من خلال عملي الفني

 
شارك