يارا قبرصي: كل خسارة أو نقص نواجهه يقابل بالمزيد من النِعم والمزايا

نحاول أن نفهم إحساس من فقد جزءا من جسده أو حاسة من حواسه، نعي جيدا صعوبة الأمر والقوة الجسدية والنفسية التي يتطلبها التقبل والتعايش مع هذا التغيير القاسي، ولكننا نقف بعجز أمام التحديات التي تواجه من يعيش بشكل يومي مع هذه الخسارة.
نتعرف فيما يلي على قصتين تشكل صاحبتاهما، نموذجا في الصبر والقوة والشجاعة، لنتأكد أن كل حدث مهما بدا قاسيا، يمكن تحويله إلى أمر أكثر إيجابية يساعدنا على الاستمرار ووضع هدف جديد لحياتنا.

الخيار الأسهل وربما الأكثر راحة، لدى مواجهة مشكلة صحية صعبة، هو الحفاظ على سرية ما يحدث أو مشاركته مع الدائرة الصغيرة المحيطة بنا، ولكن الشابة اللبنانية يارا قبرصي، اختارت التحدث ونشر الوعي، ومشاركة جمهور واسع عبر وسائل التواصل ليومياتها ومشاعرها عبر حسابها على إنستغرام yarakobrossy. يارا الأم والزوجة والمرأة العاملة والناجحة، تأقلمت مع ظرف قاس جداً لكي تؤكد أن لا شيء صعب أو مستحيل أمام إرادة الإنسان، فكيف تأقلمت في مجتمعها، وكيف ترى نظرته إلى الآخر المختلف؟ الإجابات في هذا اللقاء معها.

أخبرينا المزيد عن الحالة الصحية التي لديك Retinitis pigmentosaوالتي تؤدي إلى غياب كبير للبصر، ولماذا اتخذت قرار مشاركة تجربتك معها عبر وسائل التواصل؟

تم تشخيصي بـ Retinitis pigmentosa وهو اضطراب وراثي يحدث للعين ويتسبب في فقدان الرؤية بشكل تدريجي، ويزيد مع التقدم في السن، حين كنت بعمر 8 سنوات، علم أهلي بحالتي وحاولوا أن يفسروها لي ولكني لم أتمكن من استيعابها لأني كنت قادرة على الرؤية بشكل طبيعي. حين بلغت عمر 17، مع بداية سنوات الشباب وفي فترة دخولي إلى الجامعة، شهد وضعي تغيّراً جذياً كبيراً وساءت عيناي بشكل كبير، بتّ أحتاج إلى المساعدة في كل شيء: القراءة والمشي والكتابة، وقد كان عاماً صعباً جداً، أحسست بالحزن الشديد والصدمة، شعرت بالخجل حين كنت أخرج مع أصدقائي، واستمرت حالة النكران والاستياء والمشاعر الصعبة بملازمتي حتى العام الفائت، وتحديداً حين بلغت عامي الـ33، وقتها تأكدت أنه لا يمكنني الاستمرار بالتخفي وإنكار حالتي، بداية حتى يتمكن محيطي من فهم وضعي ومساعدتي في التعايش معه، كما أن قدرتي على التحدث ستخوّل من حولي التعامل معي بالشكل الصحيح، بالإضافة إلى أن إخراج ما بداخلي سيساعدني في التحرر من المشاعر السلبية. كان التحدث على الملأ من خلال فيديوهات توعوية صعباً ومخيفاً جداً، ففي النهاية أنا لست يارا فقط، بل أنا أم ميلا ولانا وأنا زوجة جورج، والمجتمع من حولنا قاس، وسيحكم عليّ بشكل ما، ولكني عرفت أن القرار الأمثل لي هو التحدث.

من شجعك على التحدث؟ ووقف إلى جانبك لتقبل التغييرات التي تحصل معك مع تقدم الحالة؟

في الحقيقة شاركت زوجي برغبتي في التحدث، وعلى الرغم من أنه لم يكن متحمساً في البداية لأنه لم يرغب بكشف حياتنا الخاصة إلى الملأ، إلا أنه شجعني على القيام بكل ما يريحني، كما أن أهلي كانوا داعمين بشكل كبير، لأني سأرفع الوعي بكل أنواع المشاكل الصحية التي تسبب الإعاقة، فهي تتحول إلى جزء من هويتنا: إذ أني لم أعد يارا فقط، بل أنا يارا التي تواجه Disability معينة، وعليها أن تكيّف حياتها وشخصيتها لكي تتعامل معها.

لطالما كان أهلي وأقاربي وزوجي أكبر داعمين لي، لذا لم أضطر أبداً لرؤية مختصين نفسيين، كنت أقرأ وأجري أبحاثاً حول حالتي، لكي أتمكن من التعايش معها، كما أني أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على ماستر في Inclusive Education، لأكون على اطلاع بكل ما يعنيني ويخص من هم مثلي، لدرجة أني حين أذهب اليوم إلى الطبيب، يتفاجأ من كم المعلومات التي لديّ ومن إلمامي بكل التفاصيل.

كيف وصلت إلى تقبل وضعك والتسليم بأنه عليك أن تكوني قوية لكي تواجهي الحياة ومسؤولياتك، كزوجة وام وامراة فاعلة في مجتمعها، بطريقة جديدة؟

لم يكن التقبل سهلاً وكما قلت سابقاً فقد أخذ سنوات طويلة من الصراع، ولكني اليوم بتّ متقبلة لكم مسؤولياتي: عملي ومهنتي فأنا أؤدي وظيفتين، ودوري كأم وزوجة وابنة، وحالياً دوري كفاعلة ومؤثرة على مواقع التواصل، بالتالي فإن هذه الالتزامات تحتّم عليّ أن أظلّ قوية. حين أشعر بالضغوط ألجأ إلى الرياضة والسفر والتفاعل مع الناس فأنا أحب الخروج والسهر والتفاعل مع الناس، وهذه أدواتي للتخلص من المشاعر السلبية.

هل تعتبرين أن مواجهة الصعوبات تجعلنا أقوى وأكثر حكمة ومعرفة للحياة؟

بالتأكيد، من يعاني من إعاقة أو مرض ما، عليه أن يكون أكثر قوة وصلابة، لكي يتمكن من التخطي نفسياَ وجسدياً، وليجد التقنيات والحلول التي تساعده على التخطي والاستمرار.. أنا مثلاً حين أريد وضع الحليب في الزجاجة لابنتي الصغيرة، توجّب عليّ البحث عن أكواب مخططة، لكي أعرف الكمية المطلوبة.. إنه مثال صغير عن بحثي الدائم عن حلول لأي مشكلة تواجهني، حتى لا أقصّر بحق طفلتي.

من جهة ثانية، لديّ قناعة بأن الله يعطينا على قدر قدرتنا على التحمّل، فكل خسارة أو نقص نواجهه، يقابل بمزايا ونِعم، وسأظل شاكرة لوجود أهل وزوج وأقارب وأصدقاء داعمين ومشجعين ومساعدين لي في كل المراحل التي قطعتها.

حدثينا عن علاقتك بزوجك، ومدى الدعم الذي تتلقيه منه؟

تعرفت على زوجي في سن صغيرة جداً، وهو يعرف عن حالتي منذ ذلك الحين، وقد شجعني في المدرسة والجامعة والعمل.. أحياناً لا يتذكر أنّ لديّ هذه المشكلة، لأنه يثق بي وبقوتي بشكل كبير، وبالفعل وجوده يسهّل حياتي كثيراً، لأنه مدرك لحالتي دون أن يعتبرها عائقاً في علاقتنا وحياتنا وواجباتنا الزوجية ودورنا كأهل لابنتين صغيرتين.

كيف تختارين أفكار الفيديوهات التي تقدمينها، وحتى انتقاء الكلمات والعبارات المؤثرة؟

لديّ صديقة مقربة تساعدني فهي ضليعة في أساليب النجاح في إيصال فكرة ما عبر وسائل التواصل، تقوم بتصويري وتضع معي أفكار المحتوى بشكل عام، كما أنّ قريبتي نادين تعدّ من أول المشجعين لي وتحثني أن أكون دائماً على طبيعتي حين أصوّر وأشارك مشاعري وتجاربي مع الجمهور.

أحيانا لا يجيد المجتمع الواسع التعامل مع حالات الاختلاف. كيف برأيك يجب التعامل: من دون مبالغة في المراعاة أو في المقابل، الحشرية وطرح الأسئلة الحساسة؟

من أهم أهدافي هو نشر الوعي بكيفية التعامل مع أصحاب الإعاقة، حيث أعمل مع شركات ومؤسسات تعليمية لدعم هذه الفئة وتسهيل تواجدها في أماكن العمل المختلفة. ما يزعجني في المجتمع هو المبالغة في الاهتمام، فما نحتاجه هو أن نتحدث براحة مع من حولنا لإفهامه وضعنا وحينها سيفهم كيفية التعامل. وهنا ألفت إلى أنه علينا عدم إبداء الانزعاج من الاهتمام المبالغ، لأن الآخر لا يعرف أنه يضايقنا فهو ببساطة غير مدرك كيف عليه أن يتصرف، لذا فإن التحدث سيكون الباب الوحيد لفهم الآخر والوصول له.

حين نخسر نعمة، هل نربح نِعم اخرى في المقابل؟

من الطبيعي أن نركز على النِعم الأخرى حين نخسر واحدة، فأنا مجبرة على التركيز على السمع لأن نظري ضعيف جداً، بالتالي فأنا أقدّر باقي النعم ربما بشكل أكبر من غيري.

برأيك هل باتت مجتمعاتنا قادرة على تقبل الاختلاف، بكل أشكاله مع الآخر؟

هناك الكثير من التقدم في تقبلنا للآخر، وما أحبه في مجتمعاتنا الشرقية هو التعاطف الكبير الذي نبديه حين نعرف أن من يقابلنا يواجه مشكلة ما، فهناك حب كبير للمساعدة. صحيح أن لدى الغرب القواعد والقوانين التس تسهل حياة أصحاب الإعاقة، ولكن نحن لدينا الاهتمام الجميل والعلاقات الإنسانية القوية، التي توفر الكثير من الدعم النفسي.

ماذا تقولين لبناتك، وكيف ستربينهما لتعرفا أهمية تقبل الاختلاف واحترامه؟

الأطفال أذكياء جداً وقادرون على التعامل مع أي ظرف يواجهونه بفطرة طبيعية، فابنتي الصغيرة التي تبلغ من العمر عامين حين ترغب بأن تريني شيئاً ما، تقوم بمسك يدي وجعلي ألمسه، وحتى الكبيرة تبدي رغبة بمساعدتي، وأنا أتركها تقوم بذلك كي تتحمل جزءاً من المسؤولية. بالتالي فقد تربيتا على معرةف وجود اختلاف وضرورة تقبله واحترامه والتعامل بوعي معه.

ما هي رسالتك لكل من يواجه مشكلة صحية صعبة ويشعر باليأس وعدم الرغبة بالاستمرار؟

أقول له: لا تخجل أو تتردد في طلب المساعدة، وخذ الوقت الذي تحتاجه لتخطي مشكلتك أو تقبلها، ومن المهم جداً أن نحيط أنفسنا بأشخاص داعمين ومشجعين، ونتحدث عن كل ما يزعجنا لأن في الكلام راحة كبيرة وتخلص من كل المشاعر السلبية.

اقرئي المزيد: أبرار الزنكوي: القيم التي أخذتها من والدي الكويتي ووالدتي المجرية جعلتني قوية وصادقة وصاحبة مبادئ

 
شارك