كريستينا عاصي قصة إرادة استثنائية بوجه هجوم غادر

نحاول أن نفهم إحساس من فقد جزءا من جسده أو حاسة من حواسه، نعي جيدا صعوبة الأمر والقوة الجسدية والنفسية التي يتطلبها التقبل والتعايش مع هذا التغيير القاسي، ولكننا نقف بعجز أمام التحديات التي تواجه من يعيش بشكل يومي مع هذه الخسارة.
نتعرف فيما يلي على قصتين تشكل صاحبتاهما، نموذجا في الصبر والقوة والشجاعة، لنتأكد أن كل حدث مهما بدا قاسيا، يمكن تحويله إلى أمر أكثر إيجابية يساعدنا على الاستمرار ووضع هدف جديد لحياتنا.

فتاة مليئة بالطموح والذكاء والحياة والحيوية، رسمت طريقا لتحقيق حلمها وكانت تسير بثبات فيه، حتى لحظة مفاجئة وغادرة من الزمن، قلبت حياتها راسا على عقب. لم ترغب كريستينا عاصي بالشهرة، ولكنها أصبحت مشهورة، ما رغبت به هو أن تصور وتنقل الحقائق من خلال عدستها، ولكن كثر رغبوا بطمس الحقيقة لأنها تكشف بشاعتهم، فحاولوا اغتيال كل من يهدد بفضحهم، وكانت كريستينا عثرة أمامهم، إلا أنّ الشابة الجميلة أبت أن ترحل، خسرت ساقها ولكنها بقيت قوية لتكون صوت الحق الذي لا يصمت.

كيف أحبت كريستيا التصوير وقررت أن تحترفه وتصير مصورة صحافية؟

تركت لبنان عام 2005 إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري، كان عمري 9 سنوات، وأذكر يومها ردة فعل الناس في الطرقات ومن حولنا، حينها تحرك اهتمامي بالسياسة والأخبار والمستجدات التي تحصل في بلدي، بعد ذلك قرر والدي المغادرة إلى قطر، لكي يحمينا من كل ما يحصل. عام 2006 عدت إلى لبنان وذهبت لزيارة أهلي في الجنوب، وبعدها بمدة قصيرة بدأت الحرب ولم نستطع مغادرة قريتنا الجنوبية، فعشت الخوف والرعب الناتج عنها، لذا قررت في مراهقتي أن أصير صحافية لأنقل كل ما يحصل من خلال وجهة نظري الخاصة، أصريت على موقفي رغم معارضة أهلي، فعدت إلى لبنان ودرست في الجامعة، وحينها اكتشفت حبي للتصوير، ووجدت أنه يناسبني في التعبير عن أفكاري أكثر من الكتابة، وحوّلت اهتمامي نحوه، على الإثر شاركت في مسابقة تصوير، وفزت بمبلغ مالي اشتريت به أول كاميرا لي، فصرت آخذ مشاريع تصويرية صغيرة، لكي أتعلم وأكتسب الخبرة اللازمة، قبل دخول سوق العمل.

بعد تخرجي عملت كمتدربة مع وكالة رويترز لمدة 6 شهور، ولكن لم يأخذوني كموظفة، وفي تلك الفترة تعرفت على عصام (الذي قضى في الاستهداف الذي تعرضنا له)، وصار صديقاً مقرباً مني، كما تلقيت اتصالاً من وكالة AFP للتدرب أيضاً، ووافقت على الأمر على أن لا يتعدى الأسبوعين لأنه سيكون غير مدفوع التكاليف، في ذلك الوقت رأيت إعلاناً منشوراً من قبلهم يطلبون Photo editor، فطلبت منهم أن تكون الفترة التدريبية مخصصة أيضاً لتجربتي في هذا المركز، وبالفعل هذا ما حصل، ذهبت إلى فرعهم الرئيسي في نيقوسيا بقبرص، وبدأت بالعمل واستطعت فهم النظام سريعاً وتوظفت. خلال أول عام ونصف عملت كمحررة صور، ولكن بعدها ازدادت رغبتي بأن أعود للتصوير، فصرت أذهب في نهايات الأسبوع للقيام بمهام تصويرية، وبعد فترة اقتنعوا بأن أنتقل أبدأ العمل كمصورة، وكانت أول مهمة لي هي تصوير الحج في فترة الحجر، وهناك التقطت صوراً مميزة، وأثبت اسمي كمصورة، وعدت في قمة السعادة، كما صورت بعدها مونديال قطر وكانت أياماً جميلة استطعت فيها أن أحقق حلمي.

حدثينا عن أسباب عودتك إلى لبنان بعد بدء الحرب في غزة لتغطي الأحداث في الجنوب؟

حين بدأت أحداث غزة رغبت مباشرة بالعودة إلى لبنان، أردت بشدة أن أذهب إلى الجنوب لأصور ما يحصل، وبعد الكثير من المفاوضات مع المسؤولين في العمل، وافقوا على سفري، فجئت مع زميل لي، وكنت متحمسة كثيراً، وعلى الرغم من أنهم لم يرغبوا بإرسالي إلى الجنوب إلا أني أصريت على الذهاب، وكان لي ما أردت. وصلنا وتمركزنا في نقطة بعيدة عن الاشتباكات كثيراً، حيث يجتمع كل الصحافيين والمصورين، كان الجو هادئاً حتى سمعنا أخباراً عن وجود قصف في قرية علما الشعب، فتوجهنا إليها ولم نكن نسمع الكثير من الضربات، فقد كانت بعيدة جداً، وفي اللحظة التي قررنا فيها أن نغادر، تلقينا أول ضربة، شعرت أني وقعت على الأرض ولم أعد أشعر بقدماي، بعد ثوان معدودة حصلت الضربة الثانية، وهنا اختفى كل ما هو موجود أمام نظري، احترقت سيارة قناة الجزيرة، وأصيب معظم الموجودين. لا أذكر أني شعرت بآلام ولكني رأيت أني أنزف، هنا أتى زملاء لي تواجدوا في المنطقة لمساعدتي ونقلي إلى مكان آمن، بعدها أذكر قدوم الإسعاف.

لم يتقبل دماغي كل ما أراه، ولم أستوعب مدى إصابتي.. في الفيديوهات التي رأيتها لاحقاً كان يبدو أني أصرخ وأتألم، ولكني لا أذكر الوجع، ما فكرت به فقط هو أني لا أريد أن أموت، كنت متمسكة جداً بالحياة، وأردت أن أتعافى سريعاً لأعود وأسترجع كاميرتي، في سيارة الإسعاف، تلقيت المزيد من الضربات على رأسي بسبب السرعة وكثرة المطبات، وهي ما دفعتني أن أظل واعية، لحين وصولي إلى المستشفى حيث سألوني ما هو اسمي فأخبرتهم به وبعدها فقدت الوعي.

كيف كانت فترة العلاج بعد هذه الضربة القاسية؟

كانت حالتي دقيقة جداً، خسرت الكثير من الدماء وكان احتمال نجاتي 50%، وبعد عدة عمليات، بقيت 12 يوماً في كوما كاملة، حين استيقظت كنت في حالة صدمة، عرفت أني خسرت ساقي، ولكني كنت أصرخ عليهم وأرجوهم أن لا يأخذوا ساقي الثانية، عشت أياماً صعبة، حيث تعرضت للكثير من نوبات الهلع والانهيارات النفسية، وخسرت صوتي فلم أتمكن من الكلام بسبب الأنابيب الموصولة بي.. أذكر حلماً ظل يراودني حين كنت في الكوما، حيث شعرت أني محجوزة في غرفة من الزجاج أصرخ للجميع ولكنهم لا يردون عليّ، وأحاول الوصول لهاتفي دون أن أجده، بعدها فهمت أن ما كنت اراه هي مشاهد حقيقية، حيث كانت الممرضة تأتي كل يوم لتحاول إيقاظي من الكوما دون أن أتمكن من الاستيقاظ، ولكني كنت داخلياً أحاول التواصل معها. كنت أصرخ على أهلي لأني ظننت أنهم تركوني ولكنهم كانوا هناك على الدوام. صدمتي الأكبر كانت حين عرفت بالصدفة بخبر وفاة صديقي عصام، ولعلّ هذا الأمر هو ما مدني بالقوة لأستمر وأتحمل صعوبات وآلام العلاج والعمليات التي تلت ذلك، فهو يستحق أن يظل حاضراً من خلالي ومن خلال كل من سيستمر بالتحدث عنه.

ما الذي تذكرينه عن فترة الخروج من المستشفى والتأقلم مع الحياة بعد أن خسرت عضواً من جسمك؟

بقيت 5 شهور في المستشفى، والخروج منها لم يكن سهلاً أبداً، كان عليّ أن أستوعب التغيير الكبير الذي ألمّ بحياتي، فلم أعد قادرة على الاتكال على نفسي أو الوقوف وقضاء احتياجاتي، ولجأت إلى العلاج النفسي لفترة، ولكن لا شيء فعلياً لا شيء جعلني أتقبل ما حصل معي، فأنا لم أتعرض لحادث سير مثلاً، بل هناك جهة أرادت قتلي، وفي تلك اللحظة اكتشفت ثنائية غريبة في الحياة: وجود الشر المطلق المتمثل بشخص قرر أن يقضي علينا من دون سبب، ووجود الخير المطلق والمتمثل بأشخاص لا يعرفوننا خاطروا بحياتهم لمساعدتنا وإنقاذنا، ومن هذه الحقيقة أحاول بناء حياتي حالياً والاستمرار بالمقاومة لكي أنصر فريق الخير.

كيف كانت كريستينا قبل وكيف أصبحت بعد الاعتداء؟

يوجد شيء بداخلي مات، لم أعد أشعر بنفسي كما كنت في السابق، اختفت البراءة التي كانت بداخلي، وفقدت إيماني بالكثير من القيم والمعايير والأنظمة الإنسانية، تأكدت أن لا وجود لكذبة حقوق الإنسان، إنها مجرد شعارات وكلام على ورق. فجأة شعرت ان كل ما آمنت به طوال حياتي كان كذبة، واليوم أفكر أن لا شيء فعلياً يحمينا، كل إنسان عليه الدفاع عن نفسه.

الخيار الأسهل وربما الأكثر راحة، لدى مواجهة حدث صعب، هو الحفاظ على سرية ما يحدث أو مشاركته مع الدائرة الصغيرة المحيطة بنا، ولكنك اخترت التحدث وصرت معروفة عالمياً ورمز للصمود والقوة والإرادة، كيف اتخذت هذا القرار الشجاع؟

حين استيقظت حاول الجميع حمايتي وإبعادي عن وسائل الإعلام، ولكني رفضت الاختباء، فأنا لست ولن أكون ضحية، أنا نجوت من محاولة قتل عمد ومن جريمة حصلت على مرأى العالم بأكمله، ولذا سأكون موجودة لكي أظل أتحدث وأخبر العالم عما حصل، فهناك شهود أحياء وقادرين على التحدث.

هل أندم؟ يطرح عليّ هذا السؤال على الدوام، ولكني أعتبره كسؤال شابة تعرضت للاعتداء إن كانت نادمة، فلا يوجد أي مبرر للمجرم، أنا لم أرغب مطلقاً بالشهرة بل أردتها أن تأتي من خلال عملي والصور التي ألتقطها، ولم أرغب بأن أصير طريحة الفراش لوقت غير محدد، بسبب مجرم لم يلتزم بأي معايير أخلاقية وقانونية وإنسانية، ولكن ما حصل قد حصل، وكلامي عنه هو ما يعطيني القوة لأستمر ولأتخطى الوجع والأوقات الصعبة التي لازلت أعيشها وستستمر معي إلى وقت طويل...أحياناً أقول لنفسي ما فائدة الكلام ولا شيء تغير ولكني سأظل أتكلم حتى تتحقق العدالى على الأقل لصحافي واحد، فهذه المهنة السامية تحتاج لمن يدافع عنها وعن الشجعان الذين يواجهون الموت في سبيل تأديتها..قريباً سأعود إلى العمل وحالياً أعمل على إعداد وثائقي تكريماً لوفاة صديقي عصام ولآلامي وحياتي السابقة بعد الاعتداء.

حملت الشعلة الأولمبية في أولمبياد باريس عام 2024، فما كان هدفك من المشاركة، وكيف كان شعورك خلالها؟

لم أعرف كيف تم اختياري ولكني وجدت أنها فرصة مناسبة للإضاءة على ما حصل معي أمام مجتمع لا يعرف الكثير عما يجري في الشرق الأوسط، لم أتوقع مدى التأثير الذي سيحدثه الموضوع والتفاعل الإيجابي الجميل من الناس من كل دول العالم.. لحظة اقترابي من الوصول شعرت بالخوف الشديد والتوتر ولم أتوقع أن يكون الحضور بهذه الكثافة، ولكني فرحت كثيراً بهذا التضامن.

سعدت كثيراً باختياري من قبل BBC كواحدة من أكثر 100 امرأة تاثيراً في العالم، فهذا عنى أيضاً إلقاء المزيد من الضوء على قضيتنا عالمياً، وافتخرت بنفسي لأن الهدف الجديد الذي وضعته لحياتي، وهو تحقيق العدالة لنا، يلقى أصداء أكبر ولعله يتحقق في يوم ما.

أين أصبحت في رحلة العلاج ومتى سنراك مجدداً في الميدان؟

ما زلت مستمرة بالعلاج وقريباً أتوجه إلى فرنسا لتركيب طرف اصطناعي والتعود عليه، وأتمنى العودة بأقرب وقت ممكن للتصوير. لا أقول إني دائماً قوية ولكني أحاول أن أتعايش مع الواقع الجديد، مستفيدة من دعم عائلتي وأصدقائي ومن الحب والدعاء الصادق الذي أتلقاه من ملايين من حول العالم، لذا لن أستسلم، وسأظل صامدة بوجه الأوجاع الجسدية والنفسية حتى النهاية.

اقرئي المزيد: Shargeeya: أشعر أني أنتمي إلى عالمين وفني يعكس هذا الثراء الثقافي بالشكل الأمثل

 
العلامات: مشاهير العالم
شارك