حكاية تسردها السلحفاة Autumn

يُقال إن الدقائق الأولى من حياة السلاحف البحرية قاسية.
وهذا وصف مبسّط لحقيقة الأمر.
أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها ضوء القمر الساطع الأكثر إشراقاً على الإطلاق. ولم تمر دقيقة على ولادتي. خرجت من الرمال إلى الشاطئ مع أخواتي بجانبي. ولم يكن لدي سوى أخوات، لا إخوة، وربما لذلك علاقة بالحرارة. وسمعت نداء المحيط، فسحره خاطف ولا مثيل له. وعليّ الوصول إلى البحر الآمن. هذا ما تطلبته غرائزي.

الآلاف تلو الآلاف منا انطلقوا في مسيرة هوجاء نحو البحر. في البداية جاء عمّال النظافة بخبطات أقدامهم المدوية وخطفوا أخواتي بدقة مميتة، واحدة تلو الأخرة، لتصبح وجبة غداء للطيور. ثم جاءت السلاطعين. هي حيوانات مائية قشرية مزعجة بمخالب قاتلة. كيف يمكن للموت أن يلقي التحية للحياة بهذه السرعة؟ لكنني كنت أصبحت قريبة من اللون الأزرق. فانطلق صوت الحرية ورائحتها.
فبدأت رحلتي من هنا.

بحثت عن ملجأ تحت بساط طحالب عائمة. قضيت معظم سنوات شبابي مختبئةً من الحيوانات المفترسة. ودفعتني غرائزي إلى أن أتحرّك مع التيارات. وقضيت معظم وقتي بمفردي، لكن من وقت إلى آخر، كنت ألتقي بزملائي المسافرين. الحياة في العالم الأزرق العميق طويلة وهادئة وجميلة.
تحملني التيارات عبر الشعاب المرجانية. وكم هي مذهلة. الشعاب المرجانية الهندسية الشكل هي بمثابة صالات عرض الفنون الجميلة في المحيط. وتندفع الأسماك المتعددة الألوان داخل وخارج الشقوق الصخرية. وقابلت كل أنواع الزملاء في الشعاب المرجانية، منها الجميلة ومنها الغريبة. وبعضها غريب بشكل جميل مثل حيوان عاري الخَيشوم. وأتمنى لو كان بإمكاني البقاء في الشعاب المرجانية، لكن غرائزي تدفعني إلى المضي قدماً مع التيار.

رأيت بساطاً كبيراً من الطحالب تنجرف على الملأ في البحر. وبدت مشابهة لتلك التي كنت أختبئ تحتها في صغري لأحتمي. فلجأت تحتها بسرعة. إنه لشعور… مختلف ربما؟ خيوط غريبة ملفوفة حول زعانفي. حاولت التخلص منها، لكن كلما حاولت أكثر، زاد التفافها حولي... ظللت أحاول وأحاول حتى أُرهقت.
لم يكن ذلك بساطاً من الطحالب. كان ثقيلاً، وانجرفت معه. انجرفت عكس اتجاهي الغرائزي.
فتذكرت قصة سمعتها في الشعاب قبل بضع سنوات. شاركت إحدى أسماك الـ manta، بعد أن غامرت في العالم الأزرق العميق، قصة مخلوق غريب رأته. وحش بألف مخلب. يلتهم المخلوقُ عشوائياً. لم يكن أحد في مأمن منه. وكنا نظن أن هذه القصة كانت أسطورة.

كنت أعرف ما الذي أمسكني. أطلقوا عليها اسم شبكة الأشباح. الشبح الذي يطارد بيوتنا.
لا أعرف كم من الوقت انجرفت فيه. كنت أقترب من النهاية عندما وجدت نفسي فجأة أُنتشَل من الماء. لقد رأيتهم من قبل، هم البشر. يحبون زيارتنا في الشعاب المرجانية، وأحياناً يرتدون معدات غريبة ويصدرون فقاعات تحت الماء.
أخذني البشر ذو الثياب الخضراء إلى محمية. لدهشتي، وجدت آخرين مثلي. كانوا جميعاً يعانون ندبات وجروحاً. إنها قصص الحياة القاسية في البحر. وكان البشر صبورين معي. وبدقة كبيرة أزالوا شبكة الأشباح عن جسدي. الخيط تلو الآخر. أحسست بأول شعور بالارتياح منذ فترة طويلة.
استيقظت وأمامي غَيْلَم (ذكر السلحفاة) عجوز يحدق مباشرةً في عينيّ، فصاح: "أهلاً بك في المحمية يا Autumn!"
" Autumn؟" لم يطلق أحد عليّ اسماً من قبل، لقد أحببت اسم Autumn.
يبدو أن الغَيْلَم العجوز قد أتى إلى هذا المكان منذ وقت طويل، ولا يمكنه تذكر السبب وراء ذلك. ليست ذاكرته جيدة.
قال: "سيهتمون بك كي تتحسّني، ستخرجين في أقرب وقت".

لقد كونت الكثير من الصداقات خلال فترة تواجدي هنا في المحمية. شاركنا الكثير من القصص. أتوا إلى هذا المكان بالطريقة نفسها التي أتيت بها، علقوا في شبكة الأشباح. وعلمت أن البشر يرمون هذه الشباك في البحر، ولا أعرف السبب. تساءلت لماذا كانوا يساعدوننا؟ ما الفائدة عليهم من ذلك؟ كان الغَيْلَم العجوز ضعيفاً، لكن عقله كان كنزاً دفيناً مفعماً بالحكمة.
فقال: "تعتمد كل الحياة على بعضها البعض. أنت تحبين الأعشاب البحرية. والبيض يغذي الشاطئ. وجسمك هو موطن البرنقيل والطحالب. وتكبحين جماح قنديل البحر. أنت وملايين الكائنات غيرك التي تقابلينها، تحافظون على الدورات الهشة لهذه الطبيعة".
سألته: "حتى أسماك القرش؟"
فأجاب العجوز: "خاصةً أسماك القرش".
كنت أتعافى ببطء. وبات بإمكاني السباحة والغوص من جديد. كم شعرت بالرضا. كان بعض الأصدقاء قد غادروا المحمية. وبقي العجوز. لقد كان مريضاً للغاية، ولا أعرف ما إذا كان سيرى العالم الأزرق العميق مجدداً.
وحان وقت مغادرتي. ودّعت جميع أصدقائي. وسبحت باتجاه العجوز وشكرته على مساعدته وحكمته.
وقال لي: "إنها غرائزك. استمري في التحرّك مع التيارات".
وكانت تلك آخر مرة رأينا فيها بعضنا البعض.
لقد استعديت للشروع في رحلتي إلى العالم الأزرق العميق من جديد. فوضع البشر ذو الثياب الخضراء شيئاً غريباً أحمر اللون على صدفي. لم يره أحد من قبل. لم أكن أعرف ما هو، لكن كان لدي فكرة أنهم سيراقبونني. لا يزال بإمكاني الغوص والسباحة والتحرك كما يحلو لي. بالكاد شعرت به.

ورغم كل التحديات، عدت مجدداً إلى المحيط. لا أستطيع فهم تعابير الوجه البشرية، لكنني أعتقد أنها كانت سعيدة وحزينة على حد سواء لرؤيتي أغادر. وأنا في غاية الامتنان لمساعدتهم لي. شعرت بسحر العالم الأزرق العميق من جديد. شعرت أن غرائزي عادت تقودني. لقد حان وقت الذهاب لتستمر رحلتي الطويلة والجميلة.

هذا النص هو سرد خيالي درامي لمنظار سلحفاة استوحاه مريض سابق في Olive Ridley Project واسمه Autumn. يمكن للسياح الذين يسافرون إلى جزر المالديف المساهمة في الحفاظ على السلاحف من خلال التبرع لـ ORP أو تبنّي سلحفاة.
وسلحفاة Autumn الحقيقية تواصل رحلتها في البحر. يمكنكم متابعة رحلة Autumn على هذا الرابط.
 

 
شارك