غوى النكت: حلمي هو تحقيق مستقبلٍ أكثر عدلاً واستدامة
بصفتها المديرة التنفيذية في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتمثل دور غوى النكت في تقديم القيادة والرؤية الاستراتيجية لضمان أن تصبح المنظمة لاعباً رئيسياً في مواجهة التحديات البيئية والمناخية التي تواجه منطقتنا، والوقوف إلى جانب المجتمعات الضعيفة التي تدفع ثمن أزمة لم تتسبب بها. فهي تشرف على تطوير وتنفيذ الاستراتيجيات والمشاريع التي تركز على الاستدامة البيئية، التكيّف مع تغيّر المناخ، وتعزيز الحلول المبتكرة لدعم المجتمعات المحلية. تشارك غنى في مؤتمرات الأمم المتحدة المعنيّة بتغيّر المناخ، حيث قادت بعثة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤتمري الأطراف السابع والعشرين والثامن والعشرين ( COP27 وCOP28)، وحرصت على إيصال أصوات المجتمعات العربية إلى طاولات المفاوضات. تقول : "انطلاقاً من إيماننا بأنّ تحقيق العدالة المناخية يتطلّب ضمان المشاركة النشطة والفعّالة للشباب في عملية صنع القرار المناخي، عملنا على إطلاق مخيمات العدالة المناخية في كل من تونس ولبنان وتنزانيا. لقد ساهمت هذه الفعاليّات الاحتفالية في سدّ الفجوات التي تواجه شباب الجنوب العالمي، ومكّنتهم من تقديم العدالة المناخية كقضية عالمية حقيقية. أسعى باستمرار لتمكين المجتمعات المحلية من خلال بناء شراكاتٍ استراتيجية مع صُنّاع القرار، والحلفاء، والمنظمات التي تشاركنا رؤيتنا لمستقبل أكثر استدامة وعدالة". تعرفي أكثر على ما تقوم به هذه المنظمة في مواجهة التحديات البيئية من خلال هذا اللقاء.
كيف بدأ اهتمامك بأمور البيئة والاستدامة؟
بدأتُ مسيرتي في العمل البيئي من لحظةٍ محوريةٍ في حياتي في سنّ المراهقة، حينما شهدتُ بنفسي في مسقطِ رأسي، بلدة "فيع" اللبنانية في منطقة الكورة، الممارسات الجائرة والجرائم البيئية التي ألحقت أضراراً جسيمةً بسكان المنطقة. لقد كان من المستحيل أن أتجاهل معاناة الأهالي من التلوّث الكبير الناتج عن المقالع والكسّارات، والذي أثّر بشكلٍ كارثيٍّ على صحتهم، اقتصادهم، وسبلِ عيشهم. منذ تلك اللحظة، قرّرتُ أن أتحرّك، لا أن أبقى صامتة، لأكون جزءاً من التغيير الذي أطمح إليه في منطقتي وبلدي لبنان.
ما شهدتُه لم يكن مجرّد انتهاكٍ للبيئة، بل كان تعدّياً صارخاً على حقوق الإنسان، وهو أمرٌ لا يمكن القبول به أو التغاضي عنه. كان لا بدّ أن أواجه هذا النظامَ المترابط بين شركاتٍ ضخمةٍ وفسادٍ محليٍّ مستشرٍ، وأن أدافع عن بيئتنا ومستقبلِ الأجيال القادمة. كما أنّ أمومتي أضافت بُعداً جديداً لالتزامي؛ فقد أصبحتُ أكثر وعياً بأنّ دوري كأمٍّ يتجاوزُ التربية، بل يشملُ أيضاً بناءَ مستقبلٍ أفضل لأولادي ومجتمعهم. فالأمهاتُ هنّ القدوة الأولى، وما نفعله اليوم يترك أثراً كبيراً على أجيال الغد. إنّ حلمي هو تحقيق مستقبلٍ أكثر عدلاً واستدامة، حيث نعيش جميعاً في تناغمٍ مع البيئة والطبيعة، ونترك للأجيال القادمة كوكباً أكثر إشراقاً وخُضرة.
حدثينا عن التحديات التي تواجه المجتمعات العربية في المجال البيئي؟ وهل تتشابه أم بات هناك تفاوت فيها بحسب إمكانيات ورؤية كل بلد؟
تواجه المجتمعات العربية تحديات بيئية متزايدة ومتنوعة تعكس واقعاً معقداً يجمع بين الأزمات المناخية والضغوط الاجتماعية والاقتصادية. يُعدّ تغيّر المناخ التحدي الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تواجه المنطقة احترارًا يعادل ضعف المعدل العالمي، مما يشكّل تهديداً كبيراً لاستقرارها الاجتماعي والاقتصادي.
من أبرز مظاهر هذه الأزمات كوارث المناخ، كالفيضانات المدمّرة التي شهدناها مؤخراً في ليبيا وعدّة دول أخرى في المنطقة، ونُدرة المياه التي تهدّد التنمية والأمن الغذائي، إذ تُعدّ المنطقة من الأكثر جفافاً في العالم. إلى جانب ذلك، تزداد مشكلة التصحّر، التي تؤثر على الزراعة وسبل العيش بشكل كبير.
تُعاني المنطقة أيضاً من التلوّث بمختلف أشكاله، سواء كان تلوّث الهواء الناتج عن الانبعاثات الصناعية، أو تلوّث المياه، أو التلوّث البحري بالبلاستيك والنفايات. في هذا السياق، يُعدّ تلوث الهواء أحد أبرز هذه التحديات، حيث تتجاوز مستوياته في معظم المدن العربية الحدود الآمنة وفقاً للمعايير العالمية. هذا التلوّث لا يقتصر أثره على تدهور صحة السكان، بل يسبب خسائر اقتصادية ضخمة تُقدّر بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، ويؤدي إلى أكثر من 270 ألف حالة وفاة سنوياً. بالإضافة إلى ذلك، تعاني العديد من الدول من أزمات في إدارة النفايات، وفقدان التنوع البيولوجي نتيجة التحضّر المتسارع وأزمة المناخ.
تختلف قدرة الدول العربية على مواجهة هذه التحديات. ففي حين تبذل بعض الدول جهوداً ملحوظة في تعزيز الطاقة المتجددة وإدارة الموارد بشكل مستدام، تعيق الأزمات السياسية والاقتصادية تقدم دول أخرى. ومع ذلك، يبقى التصدي لهذه الأزمات البيئية والمناخية رهناً بتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، لتحقيق العدالة المناخية ودعم التنمية المستدامة. ويتطلّب هذا التعاون إرادة سياسية قوية واستثمارات حقيقية تُوجّه نحو الحلول المستدامة لضمان مستقبل أفضل للمنطقة.
ما هي المخاطر التي تغيب عن أذهان الشعوب في ما يتعلق بالتغيّرات المناخية؟
عندما نتحدث عن تغيّر المناخ، غالبًا ما ينحصر التفكير في الظواهر الواضحة مثل ارتفاع درجات الحرارة أو الفيضانات، لكن ما يغفله الكثيرون هو أن تغيّر المناخ يشكّل أزمة وجودية تهدد حياتنا وصحتنا وسبل عيشنا ورفاهنا الاقتصادي. هذا التهديد لا يستثني أحداً، لكنّه يترك بصمة أشد قسوة على الفئات الأكثر ضعفاً. من الغذاء إلى الهواء والماء، تتعرّض كل العناصر الأساسية التي تضمن صحتنا ورفاهيتنا لخطر حقيقي ومتزايد.
في المقابل، تتزايد المخاطر الصحية نتيجة تغيّر المناخ، حيث تؤدي موجات الحر الشديدة إلى ارتفاع في حالات الجفاف، والإنهاك الحراري، وضربات الشمس، وحروق الجلد، إلى جانب انتشار أمراض جديدة وزيادة الحالات المرضية المرتبطة بالجهاز التنفسي والقلب.
بحلول عام 2050، من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمقدار 4 درجات مئوية، مع احتمالية تسجيل ما يصل إلى 200 يوم من الحرارة الشديدة سنوياً. هذه الظروف قد تجعل بعض مدن المنطقة غير صالحة للسكن بحلول نهاية القرن.
كما يُعدّ الأمن الغذائي أحد أكثر المجالات تأثراً بتغيّر المناخ. إذ يؤدي التصحّر وتدهور الأراضي الزراعية إلى صعوبة متزايدة في إنتاج الغذاء محلياً، مما يزيد الاعتماد على الواردات ويُفاقم تقلّب الأسعار، مهدداً الفئات الأقل قدرة على التكيّف. أمّا بالنسبة لندرة المياه، فهي تمثّل تهديداً وجودياً يمس استقرار المجتمعات والدول. إذ تؤدي هذه الندرة إلى تصاعد المنافسة على الموارد المحدودة، مما يزيد من احتمالية اندلاع نزاعات داخلية وإقليمية.
كما يشكل تغيّر المناخ تهديدًا هائلاً على قطاع السياحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تؤدي الحرارة الشديدة والكوارث الطبيعية المتزايدة إلى تقليل إقبال السياح وتعطيل الأنشطة السياحية. ويمتد هذا الضرر ليشمل تدهور الشعاب المرجانية والمعالم الطبيعية. ويزيد ارتفاع مستوى سطح البحر من تعقيد التحديات، إذ يهدد مدناً ساحلية كالإسكندرية والدار البيضاء بالفيضانات وتآكل الشواطئ، ما ينعكس سلباً على السياحة الساحلية ويُفاقم معاناة المجتمعات المحلية.
لكل هذه الأسباب، يُعدّ تغيّر المناخ معضلة معقّدة ومتعددة الأبعاد تؤثّر في جميع جوانب الحياة البشرية، وتترك آثاراً أعمق وأكثر شمولاً مما يتصوّره الكثيرون.
ما هي الأخطاء التي نرتكبها دون أن ندرك أثرها السيء على البيئة والمستقبل؟
يُعد الاستهلاك المفرط للموارد خطأ شائعًا، سواء بشراء كميات تفوق الحاجة أو استخدام الماء والطاقة من دون مبرّر، مما يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية. فالهدر اليومي للمياه هو سلوك ضار، يتطلّب منا التحلّي بمسؤولية أكبر تجاه هذا المورد النادر والثمين. هدر الطعام أيضًا يشكّل تحديًا بيئيًّا خطيرًا، حيث يزيد من الضغط على الإنتاج الزراعي واستهلاك المياه. إذ يُساهم فقدان الطعام وهدره في حوالي 7% من انبعاثات غازات الدفيئة عالميًا، فيما تُستخدم نحو 30% من الأراضي الزراعية لإنتاج غذاء لا يُستهلك.
فيما يتعلق بالطاقة، الإفراط في استخدامها يؤدي إلى زيادة الاعتماد على مصادر غير متجددة كالوقود الأحفوري، مما يعزّز انبعاثات الغازات الدفيئة وُيفاقم أزمة المناخ. التلوث البلاستيكي والنفايات الإلكترونية يمثلان تحديًا بيئيًا آخر، حيث يؤدي رمي هذه النفايات دون فصلها أو إعادة تدويرها إلى تراكمها في الطبيعة، ما يهدد الحياة البحرية والبرية. الإحصاءات تشير إلى شراء مليون زجاجة مياه بلاستيكية كل دقيقة حول العالم، مما يزيد من التلوّث البيئي. الحل بسيط: يمكننا تقليل استهلاك البلاستيك أحادي الاستخدام، استبدال الزجاجات البلاستيكية بقارورات قابلة لإعادة الاستخدام، واستخدام أكياس قماشية للتسوّق بدلاً من البلاستيكية. لا بد من التذكير أيضًا بأهمية تقليص كمية النفايات التي ننتجها يوميًا، والتي غالبًا ما تنتهي في الطبيعة أو البحار.
الزراعة غير المستدامة هي أيضًا عامل رئيسي في تدهور التربة والمياه، حيث يؤدي استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية إلى تهديد التنوّع البيولوجي. كما أنّ قطع الأشجار وتدمير الغابات لهما تأثير مباشر على التوازن البيئي، حيث يُساهمان في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. أما على مستوى النقل، فإن الاعتماد الزائد على السيارات الخاصّة يزيد من انبعاثات الكربون ويؤثر سلبًا على جودة الهواء، عوضاً عن التحول إلى وسائل النقل العام، ركوب الدراجات، أو المشي.
من خلال اتخاذ خطوات بسيطة وواعية في حياتنا اليومية، يمكننا جميعًا أن نساهم في حماية البيئة وضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
كيف يمكن إدخال مفاهيم الاستدامة إلىا حياتنا العصرية؟ كيف يمكن تبسيطها لكي يتمكن الجيل الجديد من فهمها و تطبيق قواعدها؟
الاستدامة ليست مجرّد مفهوم بيئي محدود، بل هي إطار شامل يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية: البيئة، الاقتصاد، والمجتمع. في عصرنا الحالي، تتجلّى أهمية الاستدامة في قدرتها على تحقيق التوازن بين احتياجاتنا الحالية وحماية موارد كوكبنا للأجيال القادمة. هذا التوازن هو أساس لمواجهة التحديات البيئية المتزايدة مثل تغيّر المناخ، التلوّث، واستنزاف الموارد.
ما يلهمني حقًا هو التفكير في كيفية غرس هذه القيم في الجيل الجديد، الجيل الذي سيتحمّل مسؤولية مواجهة تحديات تغيّر المناخ واستنزاف الموارد. لذلك، أرى أنّ تبسيط مفاهيم الاستدامة يبدأ من جعلها جزءًا من حياتهم اليومية، من خلال توضيح أنّ إعادة التدوير، توفير الطاقة، تخفيض الاستهلاك، أو اختيار المواصلات العامة ليست فقط خطوات لحماية البيئة، بل هي تُساهم أيضاً في تحسين حياتهم وحياة مجتمعاتهم.
أؤمن بشدة بقوة القصص الشخصية والنماذج الملهمة في تحقيق التغيير. فمشاركة حكايات شباب وشابات من منطقتنا قادوا مبادرات مبدعة وملهمة تُعتبر خطوة أساسية، حيث تنقل رسالة واضحة إلى جيل الشباب: أنتم صُنّاع التغيير، وبإمكان كل واحد منكم إحداث فرق ملموس.
ونظرًا للإمكانات الهائلة التي يتمتّع بها هذا الجيل، فإن تمكينه ودعمه يعدّ ضرورة ملحّة. يمكن تحقيق ذلك من خلال دمج مفاهيم الاستدامة في مختلف المجالات مثل التعليم، التكنولوجيا، والفنون، لجعلها أكثر قربًا من واقعهم، وأكثر ارتباطًا بحياتهم اليومية ومُمتعة أكثر لهم.
ما هو الدور الذي تلعبه المرأة العربية في مجالات البيئة وفي المشاركات بأهم المؤتمرات والفعاليات التي تتعلق بها؟
تلعب المرأة دورًا حيويًا في الحراك البيئي والمناخي، حيث تواجه تأثيرات غير متكافئة بسبب ارتباط أدوارها بشكل كبير بالموارد الطبيعية، لكنّها تقف في الصفوف الأمامية لمواجهة تغيّر المناخ. المرأة العربية، بعطائها وقوّتها، تمثّل ركيزة أساسية في قيادة مبادرات الاستدامة والمشاركة في المفاوضات الدولية مثل مؤتمرات الأطراف، وهي تتمتّع بدور مؤثر في صياغة السياسات المناخية والبيئية.
بالرغم من التحديات، تثبت المرأة العربية قدرتها الاستثنائية على التأثير و قيادة الحلول المناخية لصنع مستقبل أكثر استدامة وعدلاً. لذا، فإنّ تحقيق التكافؤ الجندري في مفاوضات المناخ وضمان تمثيل النساء في مواقع صنع القرار يُعدّ خطوة محورية لتعزيز العمل المناخي والبيئي. إضافة إلى ذلك، فإنّ دعم وتمويل المبادرات النسائية المحلية يعزّز التأثير الإيجابي للمرأة في مواجهة التحديات البيئية والمناخية، ويُمكّنها من تقديم حلول مستدامة تخدم المجتمعات الحالية والمستقبلية.
مع استقبال عام جديد، ما هي النشاطات التي ننتظرها من غرينبيس؟ حدثينا عن مشاركاتك وطموحاتك المهنية في الفترة المقبلة؟
في الفترة المقبلة، أطمح إلى مواصلة تعزيز دور غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمنصة رئيسية تقود التغيير البيئي والمناخي في المنطقة،. سأركّز على بناء شراكات استراتيجية مع جهات محلية ودولية لتحقيق تأثير أوسع، مع تسليط الضوء على قضايا العدالة المناخية والاستدامة في المحافل العالمية. أحد أهم أولوياتي هو تمكين الشباب والمجتمعات المحلية من قيادة التغيير من خلال برامج تدريبية ومبادرات مبتكرة.
اقرئي المزيد: ياسمين باقر: التريث قليلاً سيسمح لنا برؤية الطبيعة حولنا وتقديرها والحفاظ عليها