نرجس نور الدين: الاستدامة جزء من عملي الفني وحياتي اليومية

في عالم الإبداع الفني والتصميمي، اختارت الفنانة الإماراتية نرجس نور الدين التركيز على جمالية الخط العربي لتبرزها وتقدّم جزءاً من تاريخ وثقافة العرب بشكل مبهر ويحاكي جيل اليوم ويشبه أفكاره، فامتلكت المعرفة والثقافة والتجربة، وانطلقت متسلّحة بموهبة لا تشبه غيرها لتقدّم أعمالاً تنال التقدير المحلّي والعالمي، فكيف تقيّم رحلتها وما هو دور الاستدامة في عملها وكيف ترى مستقبل فن الخط في ظل التطور في العالم الرقمي؟

شغفكِ بالخط بدأ منذ سنوات طويلة، لماذا اخترتِ التركيز عليه وإبراز جمالياته وتحويل حروف لغتنا إلى قطع إبداعية مبهرة؟

بدأ شغفي بالخط منذ الصغر مع لوحة خط قرآنية جلبها والدي إلى المنزل. وقد أسرتني وأخذت من وقتي الكثير وأنا أتأملها وألاحظ تفاصيلها وبراعة الخطّاط في حياكتها، ولطالما تمنيت أن أستطيع الكتابة مثلها. وهكذا ومنذ الصغر كنت أتوقف عند كل لوحة خط أمر بها. ثم ظهرت مهاراتي الفنية بالرسم، فرسمت المناظر الطبيعية والوجوه، ولكن بقي لفن الخط المكانة الأولى في قلبي حتى شغلني عن غيره من الفنون. وكان أبي يشجّعني ويطلب منّي كتابة آيات وسوراً محددة، ثم يحاورني ويبدي رأيه ويعطي توجيهاته. وصحيح أنّه لم يكن خطّاطاً ولكنه كان موجّهاً ومحفّزاً لتعلم أصول الكتابة والخط. لقد كان نجّاراً ويفهم جيداً قيمة التفاصيل في إنجاز العمل الدقيق، وقد كان منزلنا يعج بالقطع الخشبية التي كان يصنعها بيديه. هذا بلا شك أثرى معرفتي إلى أن وجدت نفسي بعد سنوات طالبة في معهد الشارقة لفن الخط العربي أتعلّم أصول هذا الفن، ثم شاركت بالمعارض والمسابقات والتقيت بكبار الخطاطين من مختلف الدول الاسلامية الذين توافدوا إلى المواسم الثقافية في دولتنا، وتعلّمت من تجاربهم وخبراتهم إلى أن أصبح لي دور في هذا المجال.

كيف تأتيكِ الأفكار الجديدة وتحافظين على التجديد والابتكار؟

أفكار اللوحة الجديدة تأتي من عدة مصادر، مثلاً من آية كريمة تلفت انتباهي أو حكمة أو بيت شعر، فأبدأ بتصميم وتجويد شكل كتابتها، فاللوحة الخطية كثيراً ما تكون تشكيلاً وإبرازاً لنص جميل أو رسالة هادفة. وقد تنشأ الفكرة من حاجة مكان ما لعمل فني، سواء بتكليف من صاحب المكان أو بفكرة مني، فالفنان يرى كل ما حوله مساحات مرشحة لأعمال فنية، ويجد لها الحلول والتصاميم المناسبة من وحي الحروف والكلمات والمعاني. يجري ذلك على المساحات الجدارية في البيئة المحيطة كما على مختلف الاشياء صغيرها وكبيرها. فتارةً أرى الحروف تناسب قلادة ذهبية في عنق صديقتي، أو نصباً تذكارياً في ساحة ما، أو درعاً تكريمية في جائزة، أو تصميماً على خارطة هندسية. وقد حصل سنة 2016 أن عملت مع دار الأوبرا الملكية اللندنية على مشروع أوبرا أرادوا فيه تجسيد إحدى لوحاتي على المسرح في أبوظبي.

أما التجديد، فأستطيع القول إنّ كل عمل أنجزته كان تجربة جديدة من عدة نواحٍ، ليس فقط لاختلاف النصوص والألوان أو المدرسة الفنية أو نوع الخط، بل لتنوع المواد المستخدمة والخامات والتقنيات.

كيف يساهم فنكِ في زيادة نشر وتعريف العالم الغربي وحتى الجيل الجديد من الشباب العربي بجمالية الخط العربي وخصوصيته؟

التنوع والغنى الحضري في دولة الإمارات هو عامل مساعد للنجاح، والجميع هنا يشاركنا محبة هذه الأرض وثقافتها ويتطلّع باهتمام وإعجاب إلى تاريخها وتراثها. أنا استند لهذا التراث الغني وأقوم بدوري ورسالتي بنقله وإيصال أجمل ما فيه إلى المجتمع العصري من خلال عملي الفني. وعندما أقدّم لوحة لمناسبة ما أو مكان ما، أحرص أن يكون موضوعها مناسباً لموقعها. وحسب تجربتي، رسالة وموضوع وفكرة العمل الفني لا يقل أهمية عن جمال شكله وتكوينه البصري. لوحة الخط ليست فقط جمالاً تشكيلياً، بل لها بعد آخر يحاور العقل كما القلب. في البعد الأول يقف المشاهد متأملا الألوان والأشكال والخامات والتقنيات، ثم يتلقّى الأبعاد الأخرى مثل مضمون الرسالة المخطوطة في اللوحة، فإذا هي تحاور وعيه وضميره وفكره وتترك أثراً لا يقل أهمية عن الأثر البصري.

أحاول دائماً في أعمالي أن أجتهد في هذين المستويين معاً، كما أحرص على أن أترجم الرسالة إلى لغات العالم لا أن أقدمها فقط بالعربية، لضمان أن تصل إلى كل مشاهد ومتلقّي.

برأيكِ إلى أي مدى يساعد تحويل الفن إلى قطع ملموسة ومستخدمة كجزء من حياتنا اليومية (ديكور، إكسسوارات منزلية...) في تقريب الفنون من العامة وإزالة الطابع النخبوي عنها؟

يساعد ذلك من حيث المبدأ على تقريب الناس من الفن ورفع ذائقتهم الفنية، شرط أن يكون العمل الفني مراعياً لأصول الفن وجودة التصميم. هناك فعلاً حاجة بالسوق لهذه المنتجات، وعلى الصانعين مسؤولية أخلاقية من ناحية تقديم أفضل التصاميم واستشارة أهل الفن والخبرة. كما على المصممين المتقنين دراسة السبل التي تجعل منتجاتهم متاحة لأوسع شريحة من الناس.

الواقع الذي يحيط بنا اليوم هو أنّ الصنّاع يسرقون التصاميم من أي مكان، وقد يضيفون عليها مزيداً من التشويه، ثم يغرقون الأسواق بمنتجات هابطة فنياً لا يمكن منافستها تجارياً. كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قد أبرزت البدائل الشعبوية لكل فن نخبوي. يحصل هذا في ظل واقع مرير نعيشه من الانسلاخ عن الثقافة العربية لغةً وأدباً وفناً، نتج عنه خلط هائل بين ما هو رخيص وثمين، فلم نعد نرى الشعر ولا الخط ولا الفصاحة ولا الأدب ولا الرسم كما عهدناها من قبل.

ما هي نصائحكِ للخطاطين الجدد، وهل من تقنيات يجب إجادتها للنجاح في هذا المجال؟

النصيحة الأولى لتعلّم الخط هي اتباع الأستاذ والموجّه الخبير بعلم الخط وأساليبه. وبفضل تقنيات الاتصال المتطورة، أصبحت إمكانية الوصول والتواصل مع الأستاذ أسهل بكثير من قبل.

ثانياً، كان الخط دائماً وما زال ثمرة الموهبة ثم التعلّم ثم المثابرة. ويقال إنّ الخطاطين الأوائل كانوا يميزون بين ما كتبوه يوم الخميس وما كتبوه يوم السبت، فالأول يأتي بعد أيام من الجهد والمثابرة والثاني يلي يوماً من الاعتزال والكسل. المثابرة تثري التجربة وتغذّي الطاقات والقدرات، والانقطاع والتردد يُضعف كل ذلك.

من ناحية أخرى، لا بد من الاطّلاع على تجارب الرواد والمبدعين في كل مكان ودراستها والتعلّم منها. فالتغذية البصرية حافز مهم لاستخراج طاقات الابداع والابتكار... وقديماً قيل: تعلّم ثم تكلّم.

ما هو العمل الأقرب إليكِ، أو فلنقل الذي استغرق منكِ الكثير من الوقت والتفكير لتكون النتيجة نجاح فاق توقعاتكِ؟

الحقيقة هذا سؤال صعب فكل عمل من أعمالي هو خلاصة جهد أثمر في ظروفه النتيجة النهائية التي ظهر عليها. ويمكن تشبيه هذه الأعمال بالأبناء، فكل ابن له معزّته الخاصة.

لكن من الممكن أن تحظى بعض الأعمال بفرصة من النجاح أكثر من غيرها، نتيجة موقع عرضها أو ظروف أخرى. من هذه الأعمال لوحة “شلّال الحروف” وهي بارتفاع أكثر من 12 متراً في مدخل برج بوليفار بلازا وسط مدينة دبي مقابل برج خليفة، وقد كتبت فيها قصيدة “فخر الأجيال” لولي عهد دبي.

كيف يمكن الحفاظ على الكتابة باليد في ظل التطور التكنولوجي الكبير الحاصل في عالمنا؟

التطور سمة مهمة وسنّة حياة لا نستطيع أن نوقفها، بل يجب أن نوظّفها في خدمة الوظائف الإنسانية ومنها الكتابة. لقد مرّت الكتابة من قبل بعشرات مراحل التطور المفصلية التي كان لها أثر عظيم في ما وصلنا إليه اليوم. فمنذ أن بدأت الكتابة المسمارية على ألواح الطين وصولاً إلى الكتابة على البرديات المصرية واختراع الأقلام، مروراً بالكتابة على الرقوق والعظام ومن ثم اختراع الورق وانتقاله من الصين إلى بغداد وأوروبا، تطورّت الأقلام عبر الزمن كما تطورت الأحبار والحوامل المكتوب عليها، ومن ثم ظهرت الطباعة وما حققته من ثورة معرفية غيّرت وجه العالم. وفي المرحلة الحالية، مع الانتقال إلى العالم الرقمي، هي لا تقل أهمية ولن تقل آثارها الثورية والمعرفية، لذلك علينا أن نواكب تطور العصر وأدواته ولا نتمسك بأدوات الماضي. أمّا الحفاظ على الفنون التقليدية ومنها فن الخط فهو ليس من باب إنقاذ مريض على شفا الموت، بل من باب الحفاظ على ثروة ثقافية وقيمة فنية وإنسانية كبيرة.

يحتاج فن الخط العربي إلى جهود كبيرة واستثنائية من المختصين لكي يواكب تقنيات العصر. ونعم، هناك آلة كاتبة باللغة العربية، ولكن ليس هناك بعد آلة خطاطة. يتميّز الخط العربي بخصائص وقوانين وتفاصيل معقدة لم تتوصل التكنولوجيا بعد للقدرة على التعامل معها. فبخلاف الكتابة الطباعية وأشكال حروفها البسيطة، تتخذ الحروف العربية في الخطوط التقليدية أشكالاً أكثر تعقيداً مما تم برمجة الآلة عليه حتى الآن. المهمة ليست مستحيلة في زمن تقدّم تقنيات الذكاء الاصطناعي لكنها تتطلب جهوداً كبيرة لم تبذل بعد. وحتى ذلك الحين، تبقى أدواتنا التقليدية الحالية المعززة ببعض التقنيات الحديثة فعّالة لكي تقدّم المنتج الفني المطلوب.

إلى أي مدى تراعين الاستدامة في عملكِ الفني وفي اختياركِ للمواد في خلال العملية الإبداعية؟

أنا أحاول قدر الإمكان في عملي وفي حياتي بشكل عام استخدام المواد المستدامة والصديقة للبيئة. لا أدّعي أنني صفرية الأثر البيئي، لكنني أدرس البدائل وأختار الصديق الحقيقي للبيئة في كل مرّة يعود فيها القرار لي. هناك في هذا الحقل الكثير من الاحتيال التجاري باسم الحفاظ على البيئة، وهذا موضوع شائك جداً، لكن على كل إنسان مسؤول أن يتحمّل مسؤوليته الشخصية في هذا المجال.

مع دخولنا عصر Metaverse، ما رأيكِ بأهمية الفن الرقمي وهل تؤمنين بضرورة هذا التطور في عالم التكنولوجيا وتأثيره على مختلف الفنون؟

الـMetaverse عالم جديد قد يحظى اهتمام الناس في الفترة المقبلة، وقد يكون فعلاً عالماً افتراضياً يمضي فيه ملايين البشر ساعات طويلة من حياتهم وتجاربهم الحياتية. هذا العالم الجديد فيه مساحات شاسعة وفرص كبيرة حدودها الخيال. ولا شك أنّ للفن الرقمي مستقبل زاهر وأرجو أن يكون هناك فرصة وجودية لثقافتنا العربية ضمنه.

ما رأيكِ بالتواجد النسائي في المجالات الثقافية والفنية في الإمارات، وما الذي ينقص لتعزيز تواجد المرأة في هذه المجالات وتشجيعها على القطاعات الابداعية؟

شخصياً لا أرى أنّ المرأة في المجتمع الاماراتي ينقصها التشجيع، وهي فعلاً قد أثبتت وجودها وبجدارة في كافة المجالات وبالأخص في ميدان الثقافة والفنون.

اقرئي المزيد: هيا ياسمين: السفر المستدام يوجّهنا نحو تجنّب المدن الكبرى وبناء عادات سفر أكثر صداقة للبيئة ​