عبير بالبيد: السعوديّة تحتاج إلى إبداعات مواهبها الفنّيّة النسائيّة وإنجازاتها على أرضها

هي مثال للفنّانة الشاملة فحين عزفت أبدعت وحين رسمت أذهلت ولم تكتف بمواهبها التي هي نعمة من الخالق إنّما صقلتها لتتميّز عن غيرها ودرست أيضاً الهندسة المعمارية وحققت النجاح فيها. إنها الشابة السعودية عبير بالبيد التي كانت أوّل امرأة تعزف البيانو خلال حفل يقام داخل المملكة. ساهمت عبير في صنع تاريخ جديد للشابات السعوديات وهي ترغب أن ترى بعينها نجاحات للعدد الأكبر منهنّ في مختلف المجالات. وقد كان لنا معها حديث مشوّق تطرّقت فيه إلى فنّها ومواهبها الأخرى وحياتها الحالية بعد كورونا وطموحاتها في مجال التأليف والموسيقي.

في سن صغيرة رسمت وعزفت وصعدت على مسارح مهمة ورأيت التقدير في عيون ناس كثيرة وعرفت الشهرة فهل ساعدتك الصدف أم تمتعت بموهبة استثنائيّة كان لا بدّ أن تظهر في وقت سريع وتأخذ حقّها؟

أؤمن بقوة خيالي فمنذ صغري أيّ في أيّام المدرسة ومن بعدها الجامعة لطالما تخيّلت أنّني أقف على المسرح وأقدم عروضاً قوية ومؤثرة. وبالرغم من اختصاصي في الهندسة البعيدة كثيراً عن العزف واقتناعي في سنوات شبابي الأولى أنّني سأستمر في هذا المسار إلّا أنّ ثمّة حدس لطالما رافقني وهو أنّني سأعزف وأحقّق نجاحاً في هذا المجال. وقد تحقّق لي ما حلمت به لأنّ شغفي كان قويّاً وحقيقيّاً إلى درجة كبيرة، ممّا سخّر لي كلّ الظروف لأتواجد في المكان والزمان المناسبين وأستفيد من فرصة فتحت لي أبواباً كثيرة.

قبل سنوات أي قبل الانفتاح في السعودية الذي شهدناه في السنوات الخمسة الفائتة، كنت أشارك في عروض موسيقيّة في جامعتي، وصحيح أنّها كانت مخصّصة للفتيات إنّما عزفي كان ينال الكثير من الاستحسان وهذا التواجد على المسرح ساعدني في أوقات لاحقة لأبرع أمام الجمهور العريض.

متى اكتشفت حبّك للفنون ولماذا درست الهندسة ولم تذهبي إلى مجال أقرب إلى الرسم والعزف؟

منذ صغري أحببت الفنون على أنواعها ولكنّني ذهبت باتّجاه الهندسة لأنّها مجال مضمون لمستقبل الفتاة وثابت ومريح. وخلال دراستي الجامعّية، عملت في مكتب هندسي وقدّمت الكثير من المشاريع، إنّما لم أرغب بالاستمرار فيها على الرغم من قناعتي أنّها نوع من أنواع الفنون، وأردت ببساطة التعبير عن نفسي من خلال الموسيقى والرسم. ولأكون صريحة، أهلي لم يسمحوا لي بالسفر لدراسة الموسيقى، لذلك قرّرت أن أتخصّص بالهندسة. أمّا معرفتي بالعزف فهي اجتهاد شخصيّ منيّ، إذ قمت بالأبحاث وحضرت دروساً مختلفة وعلّمت نفسي بنفسي. عشت تناقضاً كبيراً لفترات من الوقت لأقرّر في أيّ مجال سأستمّر إنّما حسمت رأيي بعد بدء الانفتاح في السعودية وتلقّيت الدعم الكبير من هيئة الترفيه. وهذا ما زاد من إيماني أنّ بلدي بحاجة في هذا الوقت بالذات إلى أشخاص موهوبين وفاعلين ومؤثرين في المجالات الفنّية.

في حال خذلك الفنّ، هل يمكن أن نراك في مكتب هندسي مستقبلاً؟

أحببت الهندسة حين درستها وفي الكثير من الأحيان كنت أقول لنفسي ما الذي تريدينه من هذا المجال الفنّي الشائك والصعب في وقت لديك شهادة هندسيّة تحلم بها الكثير من الشابّات؟ كان بإمكاني العمل وتحصيل مردود مادّي جيّد، لكن حين حقّقت النجاح من خلال العزف ورأيت مدى تأثّر عدد كبير من المراهقات والمراهقين بما أقدّمه، قرّرت أن أستمر في العزف. فقد اعتبرت كلّ رسالة تشجيع بمثابة علامة من الكون أنّه عليّ الاستمرار والتغلّب على مخاوفي وتخطّيها وتحدّيها. أحبّ الهندسة وهي جزء من حياتي ولكن هناك الكثير من الشابّات الناجحات فيها، أمّا الموسيقى فهي المجال الذي سأركز عليه في مشاريعي المقبلة لأنّني ألهم جيلاً من المراهقات اللواتي يعتبرنَني مثالاً أعلى ويرينَ فيّ بارقة أمل ليتمكنّ من خوض مجالات فنّيّة وتحقيق النجاح فيها.

هل تخيّلت أنّك ستكونين جريئة بدرجة كافية لتصعدي على مسرح شهير ومعروف أمام رجال ونساء؟

في الطفولة كانت لديّ جرأة كبيرة في شخصّيتي، ولكن في آخر سنة جامعيّة بدأت أشعر بالخشية والخوف من الظهور أمام أعداد كبيرة من الناس.. ربما هو الموروث الثقافي والاجتماعي الذي تراكم مع تراكم سنوات العمر أو التأثّر بالبيئة التي تربّيت فيها فأنا في النهاية ابنة دولة محافظة. صحيح أنّ أسرتي منفتحة، لكن لا يمكنني الخروج من عباءة محيطي فجأة. لذلك أُصبت بما يشبه الرهاب الاجتماعي مع الخشية من الفشل أو الإخفاق أمام الناس. هذا الأمر دفعني إلى البدء بالعزف وأنا أضع القناع على وجهي.. عزفت للمرّة الأولى في مقهى صغير في جدّة مع فنّانة أوبرالية شهيرة شجّعتني على القيام بهذه الخطوة. بعدها قدّمت عرضاً في موسم الرياض وقرّرت أيضاً أن أضع القناع وكانت حفلتي الثالثة في نفس الفعالية هي الأهمّ. فقد كان عليّ أن أعزف أمام ثلاث آلاف شخص وقد كنت خائفة جداً من الصعود من دون القناع على الرغم من التشجيع الكبير الذي حصلت عليه من كلّ من حولي ولا سيّما والدتي. بعد النجاح الذي حقّقته في الحفل وردود الفعل الإيجابيّة التي تلقيتها من جهات رسميّة وشعبيّة ومن شابّات صغيرات في السنّ وحتّى أطفال كلّموني وأخبروني كم أعجبوا بأدائي وبفنّي بدأت بتخطّي خوفي وبالاستمتاع أكثر بالعزف إذ عاد إليّ حماسي واستطعت أن أنزع القناع لأنطلق في هذا المجال الجديد بقوّة وقناعة.

هل واجهت الانتقادات وكيف تخطّيت العوائق الاجتماعيّة لتحقّقي ما كان حلماً مستحيلاً أمام الصبايا لسنوات طويلة في السعودية؟

في البداية كان الأمر بمثابة تجربة جديدة: بنت مراهقة كان لديها حلم بأن تعزف وواجهت انتقادات وعراقيل ولكنّها قرّرت عدم الاستسلام لها. صحيح أنّ أمّي وزوجي دعماني إنّما كنت أستمع إلى النقد وأنزعج لكنّني قرّرت تخطّيه والاستمرار. وحين عزفت في مركز «إثراء» أي حفلتي الأخيرة قبل كورونا بمناسبة اليوم الوطني السعودي، أصبحت أقوى بكثير ودرّبت فرقة كبيرة على المقطوعة واستطعت أن أفصل عقلي عن الخوف الذي كان يقّيدني في السابق. شعرت حينها بمدى جدية الموضوع وأحسست بوجود مسؤولية كبيرة على عاتقي تجاه مجتمعي وتلاميذي والناس الذين أعجبوا بأدائي. كنت الأولى صحيح لكنّني أريد أن أساهم في تطوير شخصيّات شابّات مثلي يرغبنَ بكسر حاجز الخوف والتعرّف على مجالات ثقافيّة وفنيّة جديدة ستساعدهنّ بالتأكيد على اكتشاف أفضل ما لديهنّ وتقديمه. نحن نعيش اليوم ثورة فكريّة وثقافيّة وحياتيّة تطال مختلف المجالات وأنا أفتخر بأن أكون جزءاً منها وأريد أن يكون لي ولو تأثيراً بسيطاً في تطوير قدرات بنات بلدي والتأثير بهنّ بشكل إيجابي، ممّا يدفعهن للبحث دائماً عن المزيد وعدم الاستسلام أمام الانتقادات والمخاوف التي تعيق أحلامهنّ.

تعلّمين العزف فما الذي ترينه في الجيل السعودي الجديد من مواهب واعدة؟

أحبّ التواجد مع الأطفال واكتشاف مهاراتهم وتطويرها فهم المستقبل وأنا فخورة جدّاً بنفسي لأنّني أزرع فيهنّ الكثير من الفرح والفخر. فأنا أذكر بعد حفلي الناجح أنّني تفاجأت بعدما حفظت إحدى تلميذاتي عدد كبير من المقطوعات لأنّها ببساطة وأرادت إبهاري والتمثّل بي. واليوم أعطي دروس خصوصيّة في الاستديو الخاصّ بي. هذا الأمر يحمّلني مسؤولية كبيرة ويجعلني أعمل بجهد لأستمرّ في طريق التأليف الموسيقي وأقدم شيئاً لمدرسة أو معهد أساعد من خلاله على اكتشاف المزيد من مواهبنا الواعدة.

بين العزف والرسم أين تجدين نفسك أكثر؟

أنا أعبّر عن نفسي في المجالين وأكتشف نفسي أكثر في الرسم فأجد أنّني أعكس نفسي بكلّ تجلّياتها ووضوحها على الورقة. ومن خلال كلّ عمل أرسمه، أعبرّ عن حالتي النفسيّة والمشاعر التي تعتريني، لذلك أنتقل مع الرسم إلى عالم آخر أعيشه بمفردي وأشاركه بعد ذلك مع الجمهور العريض. حين أبدأ بلوحة فلا أتوقّف عن الرسم إلّا عند انتهائها، فأرسم وأرسم لأفرّغ كلّ ما في داخلي وبعدها أنظر إلى النتيجة لأتفاجأ أحياناً بخيالي وبالأماكن التي ذهبت إليها من خلاله. الرسم مختلف تماماً عن الموسيقى ولكنّه أيضاً مجال أعشقه ويكمّلني ويزيد من تماسك شخصيّتي وقوّتها وتنوّعها. لذلك أحبّه كثيراً وسأستمر فيه إلى جانب العزف والتأليف الموسيقي. فعند الرسم، أكون مشتّتة وتركيزي غير واضح. أمّا الموسيقى فتتطلّب كامل تركيزي وتواجدي الذهني. وقد أقمت الكثير من المعارض الفنيّة في جدّة ولاقت لوحاتي الكثير من الإعجاب ولدي مشاريع متعدّدة بعد كورونا.

ما هي طموحاتك الموسيقيّة؟

أحلم بتأسيس أكاديميّة لتعليم مختلف أنواع العزف الموسيقي وأميل أكثر للعزف الجماعي أكثر من المنفرد. أحبّ أن أؤلّف مقطوعة تعبّر عن قصّة وموضوع متكامل وهذا الأمر يحتاج إلى عدد كبير من العازفين، من بينهم أنا طبعا، فأكون القائد الذي يوجّه المقطوعة ويديرها. أتمنّى أن يزداد تقبّل الجمهور السعودي للحفلات الموسيقيّة ويبدأ بالاستمتاع بمقطوعات جديدة وغير منقولة أي بعيدة عن تلك المعزوفات المشهورة لأسماء عريقة وعالميّة في هذا المجال وعندي ثقة أنّ هذا الأمر سيحصل قريباً في السنوات القادمة.

ما هي رسالتك للشابّة السعوديّة التي ترغب بالبدء في مجال صعب أو جديد؟

أقول لها: لا تخافي من الفشل. ربّما ما تقدّمينه سيعجب شخصاً واحداً فحسب، فلا تحزني من هذه النتيجة بل اعرفي أنّك أثرت فيه وهذا يكفي. الإخفاق ليس نهاية مشروعك بل هو درس عليك التعلّم منه. واعلمي أنّك ستتعرّضين للانتقاد، فلا شيء نقدّمه مهما كان قويّاً سيعجب جميع الناس إنّما انظري إلى الإيجابيّات وإلى أبسط تأثير إيجابي حقّقته لتبني عليه وتستمرّي.

ما هي مشاريعك المقبلة؟

أطمح أن أسجل المقطوعات التي أؤلفها بشكل محترف ومع عدد كبير من الآلات لتكون النتيجة احترافية بامتياز. وأطمح لإنتاج مقطوعات على مسارح كبيرة وهذا الأمر يحتاج إلى إنتاج قويّ، وهذا ما أعمل على تحقيقه حالياً. كما أخطط للقيام بالمزيد من الحفلات على أرض بلدي وفي مختلف محافظات المملكة قبل الخروج منها إلى عالمنا العربي.

ما الذي يعنيه لك أن تحقّقي أحلامك الفنّيّة على أرض بلدك السعودية؟

أعتبره حلماً يتحقّق، فهذه الأرض لطالما كانت معطاء واستقبلت كلّ الشعوب وكرّمتها وهي اليوم تكرّمنا أكثر فأكثر وتعطينا كلّ ما نحتاج إليه من دعم لننجح. وأنا هنا لا بدّ من أن أذكر مدى الدعم الرسمي الذي تلقّيته حين عزفت في حفل حيّ ومباشر أمام الجمهور العريض. فعزفت على بيانو رائع الجمال وكانت كلّ طلباتي متوافرة، وأنا محاطة حتّى اليوم بدعم وتشجيع رسمي وعائلي ومجتمعي بعد أن ازداد تقبّل الكثير من الناس لوجود المرأة الفاعل في مختلف القطاعات الفنيّة وتبلورت قناعتهنّ في أنّ بناء مجتمع قويّ ومتطوّر يحتاج إلى تكاتف جهود الرجال والنساء معاً.

اقرئي أيضاً: السعودية ريتاج الحازمي أصغر مؤلفة روايات في العالم

 
شارك