رانيا حمّاد: علينا التقبّل والتعايش والمواجهة وتغيير حالتنا نحو الأفضل

خسارة جزء من الجسد ليست كأيّ خسارة أخرى، فلا يمكن لأحد أن يتصوّرها أو يشعر بما أحسّت به من مرّت بالتجربة. ولكن يمكن تخيّل مدى صعوبة الأمر حين نفكّر في المرّة التي قصّ فيها مصفّف الشعر خصلات أكثر ممّا أردنا وشعرنا بالأسى على هذه الشعرات الصغيرة ليومين أو أكثر، أو حتّى حين تعرّضنا لجرح في اليد أو كسر في القدم أو حرق في اليد.. ناهيك عن الوجع الحسّي وهو كبير وقوّي ، فثمّة ألم معنوي أكبر بكثير ويبقى أثره لسنوات ولا يمكن لشيء أو أحد تعويضه. فنحن نحبّ هذا الجسد بكلّ نواقصه.

ولكن في حال تعرّضنا لحادث وحصلت خسارة أكبر، يا ترى كيف سنتصرّف؟ هل ستنتهي الدنيا وتتوّقف؟ الجواب هو بالتأكيد لا! فالحياة تستمرّ.. صحيح لن تكون بشكلها السابق ولكنها بالتأكيد ستّتخذ شكلاً جديداً وسيكون علينا التأقلم معه سريعاً لنجد سعادتنا من جديد فنرتاح ويرتاح من حولنا ومن أحبّنا بصدق ووقف إلى جانبنا في أصعب وأقسى اللحظات التي لم نتصوّر يوماً أنّنا سنمرّ بها.

في ما يلي سنستعرض قصّة مصمّمة الأزياء رانيا حمّاد التي خسرت ساقها، فكان هناك وجع وألم وبكاء وعذاب وحسرة ولكن في مقابل كلّ ذلك، كان هناك إرادة حقيقيّة للبقاء وللاستمتاع بالعيش.

رانيا حمّاد، شابّة مصريّة – إنكليزيّة تعرّضت لحادث كبير في منتصف فترة حملها قبل سنوات قليلة أفقدها قدمها وساقها، ولكنّها أبت الاستسلام. وبعد أن خضعت لعدد من العمليات والعلاجات تأقلمت مع العيش بطرف اصطناعي وكرّست جزءاً كبيراً من وقتها للتوعية حول أسلوب حياتها الجديدة ونقل الأمل والتفاؤل لكلّ من حولها وعانى أمراً مشابهاً أو أكثر قسوةً.

عمّا غيّرته فيها التجربة تقول رانيا: «الحادثة غيّرت شخصيّتي ورؤيتي للحياة وجعلتني أدرك أنّنا نأخذ الكثير من الأمور كالمسلمات، ولا نشعر بمدى أهميّة النعم التي نعيش فيها إلّا حين نخسرها، كما جعلتني أنفتح على الناس المختلفين عني، وأراهم بطريقة مختلفة فقد كنت في السابق أكثر سطحية وأحكم أحياناً على الآخرين من دون التعمّق في معرفة وضعهم. أمّا اليوم فصرت عميقة بشكل كبير ولا أطلق الأحكام بطريقة عشوائيّة لأنّني أدرك جيداً أنّ لكلّ شخص قصّة وتفاصيل صغيرة يعيشها وربّما يخفيها وهي التي توجّه تصرّفاته بمنحنى معين دون الآخر، من هنا تعلمت ألّا أنتقد أو أحكم على أحد بل أهتم أكثر بنفسي ومحيطي الضيق وأحاول مساعدة من حولي قدر استطاعتي».

وتضيف: «ما مررت به طال جسدي وتطلّب مني الأمر طاقة عظيمة لأتخطّاه، ولكن أعلم جيّداً أنّ غيري يمكن أن يعاني نفسيّاً وتكون معاناته أكبر ممّا واجهته على الأقلّ بالنسبة إليه. لذلك بتّ أكثر لطفاً وتفهّماً لمن حولي مع رغبتي الدائمة بإعطاء بعض الأمل من واقع تجربتي والتأكيد أنّ ثمّة ضوء على الدوام في نهاية النفق. علينا أن نعرف أنّ ما نعيشه لن يستمر وأنّ كلّ شيء يتغيّر، فنحن البشر في حالة تغيّر مستمر. وبالتالي فإنّ الحزن لن يدوم كما هو حال السعادة فهي أيضاً مؤقّتة، إنّما علينا التقبّل والتعايش والمواجهة مع المحاولة الدائمة لحلّ المشكلة بكلّ الطرق المتاحة إلى حين زوال ما نحسّ به وتغيير حالتنا نحو الأفضل».

وعن النور الذي أعطاها الأمل ورأته دائماً في نهاية نفقها تقول: «إنّه ابني الصغير. فحين حصلت الحادثة كنت حاملاً، ولدى ولادة صغيري بات لديّ هدف أقوى وأكبر لأناضل وأعيش وأستردّ الحياة الطبيعيّة ولو بشكل مختلف عمّا اعتدّته سابقاً. شعوري أنّه يحتاج إلى وجودي بجانبه كان يمدّني بالقوّة في أكثر الأوقات الصعبة والمؤلمة، ومعرفتي أنّ ما يحصل معي لن يدوم كان يشجّعني على الاستمرار. أمّا وجوده اليوم معي، فيجعلني أطرد كلّ فكرة سلبيّة يمكن أن تراودني بسبب الصعوبات التي أواجهها يوميّاً ولا بدّ لي من التكيّف معها».

العيش مع طرف اصطناعي ليست بالأمر السهل وحول هذا الأمر تقول رانيا: «قرأت كثيراً عن الموضوع وبدأت باستخدام العصا وأداة المساعدة للمشي لفترة كما قمت بتدريبات رياضيّة. في الواقع فإنّ أحد الأطبّاء أخبرني أنّني لن أتمكّن من المشي مجدّداً، إنّما أثبت بإرادتي أنّه كان على خطأ. فالإنسان حين ينوي على تنفيذ شيء ما يكون قادراً على المعجزات، لذلك لم أسمح لليأس أن يتسلّل إليّ وواظبت على التمرّن حتّى بتّ قادرة على المشي بشكل شبه طبيعي. وأشدّد هنا على أهميّة التمرين، فالإنسان الطبيعي يحتاج إلى التدرّب ليحافظ على لياقته وطاقته، بينما أنا أحتاج طاقة مضاعفة لأتمكّن من السير لمسافات طويلة. لذلك فإنّ التمرين ضروري وأساسيّ وأمارسه بشكل يوميّ لأقوّي عضلاتي».

كان لشريك حياة رانيا دور كبير في مساعدتها وتشجيعها: «الصعوبات الكبيرة حصلت أوّل سنتين بعد الحادثة، فقد خضعت لعدد كبير من العمليات كان آخرها مطلع هذا العام، وهو لم يتركني أبداً وكان يمدّني بالدعم والطاقة الإيجابيّة وتواجد على الدوام بجانب ابننا الصغير وقد انتظراني معاً لأعود إليهما. ونحن اليوم نحاول بناء شكل جديد لحياتنا معاً وننجح إلى حدّ كبير في التأقلم مع التغيير الذي تطلّبته حالتي».

توجّه رانيا رسالة لكلّ شخص تعرّض لخسارة كبيرة في حياته ويرغب بالتأقلم السريع ومعاودة حياته: «الحالة النفسيّة للشخص أساسيّة، وبالتالي فعليه أن يكون قويّاً ومتماسكاً، كما عليه أن يقتنع أنّه قادر على التأقلم مع كلّ الظروف. فالطفل يولد وهو لا يعرف أيّ شيء، ثمّ يبدأ بتعلّم المشي والكلام والتصرّف ويكتسب مهارات صعبة جدّاً لأنّه يتصرّف بفطرته. لذا حين نتعرّض لحادث جسدي كبير، علينا أن نتعامل مثل الأطفال فنكتشف قدراتنا الكامنة ونتأقلم شيئاً فشيئاً مع التغيير ولا ضير من أن ننهار أحياناً أو نبكي ونضعف إنّما يجب أن تمرّ هذه الحالة لنستمرّ. يجب أيضاً أن نتعلّم دروساً ممّا أصابنا وننضج أكثر ونعرف أنّ ما نخسره سيكون له في المقابل مكسباً ما وعلينا البحث عنه إلى حين إيجاده. من ناحية أخرى علينا عدم الانغلاق على ذاتنا والاستفادة من دعم المحيط الاجتماعي والتحدّث عمّا نشعر به وطلب المساعدة في حال احتجنا إليها».

وتضيف رانيا: «في الحياة ما من شيء مثالي أو كامل وحين يمرّ الإنسان بتجربة صعبة، سيفهم من تلقاء نفسه أنّ الكمال غير موجود وسيعرف أنّ النواقص متواجدة في حياة الجميع إنّما علينا النظر إلى ما لدينا وتقديره. للأسف إنّ دخولنا في عالم التواصل الاجتماعي لم يساعدنا لفهم هذه الحقيقة، بل على العكس زاد من تركيزها على البحث عن الكمال، فبتنا نصدّق الصور المزيّفة التي نراها فنحسد ونغار ونغرق أكثر في مشاعرنا السلبيّة ومشاكلنا. من هنا أقول لمن يواجه حالة مشابهة ألّا يصدق كلّ ما يراه بل يأخذ من هذه الوسائل ما يفيده ويعيش حياته بحسناتها وسيئاتها ويستفيد من قضاء وقته مع من يحبّهم ولا يضيّعه في التفكير بأمور لن تفيده أو تغيّر واقعه».

وحول أكثر التعليقات التي تزعجها في المجتمع تقول: «الكثير من الناس لا يعرفون كيف يتعاملون مع ذوي الاحتياجات الخاصّة، فينظرون إليهم بشفقة أو كأنّهم أقلّ منهم أو يقولون كلمات قاسية عن قصد أو ربّما عن غير قصد وعن جهل بطريقة التصرّف الصحيحة. هذه التصرّفات لم تعد مقبولة في زمننا هذا فنحن متساوون وما يجعلنا مختلفين هو قيامنا ببعض الأمور والممارسات بطريقة مختلفة. وبالتالي لا أقول أنّه على الناس عدم السؤال والاستفسار عمّا جرى معي مثلاً، ولكن فليكن سؤالهم بطريقة لطيفة ومراعية للمشاعر وليراعوا بعض الحدود ويلتزموا بكمّ المعلومات التي يرغب الطرف الثاني في كشفها عن حالته. هذا الكلام القاسي وغير المراعي لا يسمعه ذوي الاحتياجات الخاصّة فحسب، بل كلّ شخص سمين أو نحيل أو مرهق فبانت عليه علامات التقدّم في السنّ مثلاً... حينها تنهال عليه التعليقات المؤذية من كلّ حدب وصوب، لذلك على هذه الفئة المتهوّرة أو المتسرّعة من الناس الانتباه جيّداً إلى تصرّفاتها والتصرّف بلباقة واحترام».

أمّا بالنسبة لمعاودة عملها في تصميم الأزياء، فتقول: «طموحاتي كبيرة جدّاً فأنا أفكّر في افتتاح علامة موضة تحمل اسمي ولكنّني أؤجل الموضوع حتّى تنتهي أزمة كورونا ويعود العالم إلى طبيعته. كذلك، أرغب في التركيز على عرض الأزياء لأكون من أوائل العارضات اللواني يقدّمنَ خطاً جديداً من الموضة وذلك باستخدام ساق اصصناعيّة بالإضافة إلى ساقي الطبيعيّة. وأحاول أيضاً نشر التوعية وتشجيع أصحاب أيّ نوع من الإعاقات الجسديّة ألّا يتوقّفوا عن السعي خلف أحلامهم ويزيلوا كلّ الحواجز التي تمنعهم من التحرّك والتقدّم، فالعائق الوحيد هو الذي نبنيه في رؤوسنا بإقناع أنفسنا أنّنا غير قادرين، في حين لو أزلناه سنجد متعة كبيرة في تقبّل اختلافنا وتحقيق ما يجعلنا سعداء».

 
شارك