دارين بربر دخلت موسوعة غينيس بساق اصطناعية: آمنوا بأنفسكم وتثقّفوا
خسارة جزء من الجسد ليست كأيّ خسارة أخرى، فلا يمكن لأحد أن يتصوّرها أو يشعر بما أحسّت به من مرّت بالتجربة. ولكن يمكن تخيّل مدى صعوبة الأمر حين نفكّر في المرّة التي قصّ فيها مصفّف الشعر خصلات أكثر ممّا أردنا وشعرنا بالأسى على هذه الشعرات الصغيرة ليومين أو أكثر، أو حتّى حين تعرّضنا لجرح في اليد أو كسر في القدم أو حرق في اليد.. ناهيك عن الوجع الحسّي وهو كبير وقوّي ، فثمّة ألم معنوي أكبر بكثير ويبقى أثره لسنوات ولا يمكن لشيء أو أحد تعويضه. فنحن نحبّ هذا الجسد بكلّ نواقصه.
ولكن في حال تعرّضنا لحادث وحصلت خسارة أكبر، يا ترى كيف سنتصرّف؟ هل ستنتهي الدنيا وتتوّقف؟ الجواب هو بالتأكيد لا! فالحياة تستمرّ.. صحيح لن تكون بشكلها السابق ولكنها بالتأكيد ستّتخذ شكلاً جديداً وسيكون علينا التأقلم معه سريعاً لنجد سعادتنا من جديد فنرتاح ويرتاح من حولنا ومن أحبّنا بصدق ووقف إلى جانبنا في أصعب وأقسى اللحظات التي لم نتصوّر يوماً أنّنا سنمرّ بها.
في ما يلي سنستعرض قصّة شابة خسرت ساقها، فكان هناك وجع وألم وبكاء وعذاب وحسرة ولكن في مقابل كلّ ذلك، كان هناك إرادة حقيقيّة للبقاء وللاستمتاع بالعيش.
سنحاول من خلال هذه السطور عيش مشاعر دارين بربر لبعض الوقت، وسنأخذ من قصتها عبرة لنقدّر أكثر ما نملك ونستمر في عيشنا بعزيمة أكبر وإصرار على الاستمتاع بكلّ لحظة يخرج فيها النفس من رئتينا ونحن بأتمّ الصحّة والعافية.
دارين بربر هي مدربة لياقة بدنيّة تعيش في دبي وقد أحرزت قبل أيّام لقباً عالميّاً بحيث حقّقت رقماً قياسيّاً جديداً في موسوعة غينيس عن فئة أطول فترة للجلوس في وضعيّة القرفصاء.
تقول دارين «في فترة مراهقتي أصبت بمرض السرطان واضطرت إلى تركيب ساق اصطناعيّة وأنا في عمر الـ15. كانت صدمة لي ولأهلي فقد كنت مقبلة على الدراسة ومحبّة للرياضة ولا سيّما كرة السلة فأقضي معظم وقتي في الملاعب. إلّا أنّ إصابتي أوقفتني وغيّرت روتيني وبات عليّ تلقي العلاج في المستشفى إلى أن بات الحلّ الوحيد هو بتر ساقي. فأجريت العملية وشعرت أن أحلامي انتهت».
وتضيف الشابة: «لكن حين تقفل الحياة باباً في وجهنا، فإنّها تفتح آخر أمامنا. عشت مع حالتي وتقبّلتها رغم صعوبة إيجاد حلم جديد أفكّر في تحقيقه، وقد كان لوالدتي دور كبير في حثّي على إكمال الدراسة رغم شعوري بالألم من تعليقات رفاقي ونظرات الشفقة التي تلاحقني في المجتمع. فالقصّة حصلت قبل سنوات ولم يكن هناك سوشيل ميديا أو فرصة لمعرفة قصص مشابهة لحالتي تلهمني الصبر أو تعطيني الاندفاع لأستمر وأجد القوّة. ولم يكن سهلاً إيجاد المثال الأعلى الذي سينتشلني من وضعي النفسي الصعب. أمّا الآن وبوجود هذا الانفتاح الكبير، فيمكن من خلال بحث بسيط عبر غوغل العثور على عشرات الحالات المشابهة لحالتي. وبالتالي فإنّ مجال التوعية اليوم بات أكبر وهذا ما أحاول فعله من خلال حساباتي عبر وسائل التواصل».
تحاول دارين إذاً نشر التوعية حول أهميّة تغيير النظرة لأصحاب أيّ اختلاف جسدي وليس إعاقة بحسب قولها، وتقول: «يجب على الناس تغيير نظرتهم وطريقة تفكيرهم أيضاً لذوي الاحتياجات الخاصّة. نحن قادرون على تحقيق إنجازات يصعب على الشخص الكامل جسديّاً تحقيقها فلنقدّر إذاً هذه الفئة المختلفة عنّا وننتبه إلى طريقة تحدّثنا معها ونختار كلماتنا بعناية ونراقب أيضاً نظراتنا وردّات أفعالنا حين نلتقي بها أو نحادثها لأنّ الكلمات يكون لها لأثر أكبر من السكين الحادّ في بعض الأحيان، في الوقت الذي يحتاج فيه هذا الشخص إلى الشعور بالدعم والتقدير من محيطه ليخرج من قوقعته في حال كان منعزلاً ويبدأ بالثقة بنفسه وبقدراته من جديد».
حقّقت دارين إنجازاً رياضيّاً كبيراً أوصل اسمها إلى العالميّة وقد حدّثتنا عنه: «قبل شهرين من الإنجاز، تلقّيت اتّصالاً من قيّمين على الموسوعة وأطلعوني على افتتاح أقسام جديدة لذوي الاحتياجات الخاصّة وأرادوا أن يكون لي دور فيها، وقد أسعدوني كثيراً لأنّهم اختاروني من العالم العربي. فالتقديم على الموسوعة يتطلب جهداً كبيراً، فما بالك حين يأتون إلى شخص ما ويطلبون منه المحاولة!! لقد كان الأمر مصدر فخر كبيراً لي وهذا ما حثّني على البدء بالتمرّن بعد أن أخترت فئة جلوس القرفصاء وقد أعطوني رقم دقيقة و15 ثانية وكان عليّ كسر الرقم وهذا ما حصل بعد تمرينات يوميّة مكثّفة لأكثر من شهر. إذ حقّقت نتيجة دقيقتين و34 ثانية وسجّل التاريخ اسمي فبات في الكتاب الذي كنت أقرؤه حين كنت صغيرة. بالتالي حقّقت أكثر ممّا حلمت به يوماً والفضل في ما وصلت إليه هو الحادث الذي ظننت يوماً أنّه دمر حياتي».
أسباب عدّة وراء خيار دارين مجال الرياضة ليكون مجال عملها حاليّاً وقد حدثتنا عنها: «الرياضة انقذت حياتي.. فلجسدنا حقّ علينا، تماماً مثل الأكل والشرب، علينا أن نغذّي العضلات ونقوّي أجسادنا لنستمرّ في عيش صحّي وسليم. وبالإضافة إلى حبّي الكبير لمختلف أنواع الرياضة منذ الطفولة، فقد توقّفت عن ممارستها في العشرينات من عمري بعد أن تزوجت وأنجبت ابنتي. إنّما تعرّضت لحادث مؤسف نتج عنه كسر في وركي أعادني إلى نقطة الصفر. شعرت بالعجز من جديد وبأنّني غير قادرة على أيّ شيء، وقرّرت حينها أن أثور على وضعي وأغيّر أسلوب حياتي، وأفكّر بنفسي وليس ببيتي وابنتي فحسب، وأعود لممارسة التمارين وقد كان لخياري هذا أكبر تأثير إيجابي على حياتي، فقد تضاعفت ثقتي بنفسي وتحسّنت نفسيّتي فدرست الرياضة وصرت مدرّبة شخصيّة وبتّ أحقّق إنجازات كبيرة كان آخرها دخولي إلى موسوعة غينيس».
دارين زوجة وأمّ لولدين، وعن دور شريكها في ما حقّقته تقول: «أنا وزوجي نعيش علاقة طبيعيّة جدّاً فقد أحبني لأنّني امرأة قويّة ومتمكّنة من تفاصيل حياتها، فهو منذ بداية زواجنا لم يكن يساعدني في البيت كثيراً لأنّني ربّة منزل ممتازة، أقوم بالطهي وبكلّ ما يلزم أولادي. لذا لم يشعر أبداً بالضغط بسبب وضعي. أنا محظوظة فقط لأنّ زوجي يساعدني ويتعاون معي حين يشعر أنّني مضغوطة أو متعبة لأنّني امرأة عاملة، تماماً كأيّ رجل منفتح وحنون ومحبّ لزوجته. وهو يشجعني على التطوّر في العمل والتقدّم في مسيرتي الرياضيّة والتغلّب على مخاوفي أحياناً لتحقيق المزيد».
وتوجّه دارين نصيحة لكلّ من يعاني صعوبات حياتيّة أو يواجه خسارة كبيرة، فتقول «التركيز على العثرة سيجعلك تقعين وتظلّين في أسفل، أمّا التركيز على الطريق والنظر إلى البعيد فسيجعلك ترين في المشكلة طريقة لإظهار قوّتك. اسألي نفسك دائماً: ماذا عليّ أن أفعل لأجد الحلّ؟ البداية تكون باستجماع شتات نفسي والبحث عن مكامن قوّتي وعدم البقاء في مكاني بل اتّخاذ قرار سريع والتصرّف وعدم الرضوخ لمشاعر الخوف والحزن واليأس».
أمّا عن رسالتها لذوي الاحتياجات الخاصّة: «أقول لهم المشكلة ليست فيكم بل في من حولكم، فلا تبالوا للتعليقات السلبيّة بل آمنوا بأنفسكم وتثقّفوا واقرأوا وابحثوا عمّا يطوّركم ويرضيكم وقوموا به، وتفائلوا دائماً واقتنعوا أنّ أيّ شيء ترغبون به يمكن تحقيقه.. وفي هذا السياق أتمنّى من المجتمع إبداء المزيد من التقبّل لذوي الاحتياجات الخاصّة، فردود الفعل الخاطئة تؤذي كثيراً ولا ضير من الاقتراب منهم وسؤالهم عن سبب حالتهم ولكن بأسلوب لبق ومهذب. نحن مختلفون لكنّنا لسنا معوقين.. ببساطة طريقة حياتنا مختلفة، فلا مجال بالتالي لكلمة مثل «حرام» أو «الله يشفيكي» فأنا بخير تماماً ولكن عليك أنت أن تحسّن من نفسك ومن طريقتك في التعاطي مع من حولك».
وعن الدروس التي تعلّمتها من التجربة تقول: «لا أتمنّى لأحد أن يتعلّم دروساً حياتيّة بهذه الطريقة القاسية. ولكن ما اكتشفته في الحياة أنّ ما من شيء نستحقّ الحصول عليه يأتي بطريقة سهلة، فكلّ أمر مهما كان بسيطاً له ثمنه. وبالنسبة إليّ، كان الثمن هو قدمي.. وما حصل كان الطريقة التي اكتشفت فيها قدراتي وحقّقت إنجازات كبيرة جدّاً لم أكن لأتخيّلها. لذلك يجب أن نعرف جيّداً أنّ الحياة المثاليّة التي نراها كثيراً عبر وسائل التواصل ليست حقيقيّة وأن الحصول على أمور ثابتة وحقيقيّة يجب أن ينتج عن تعب ومجهود كبيرين فما يأتي بسرعة يذهب بسهولة. أمّا التعب والمجهود والوقت فسيثمر حتّى لو بعد حين.
وتكمل: «كوني أمّاً، أحاول أن أنقل لأولادي أنّ الحياة لن تكون دائماً سهلة ومريحة وأنا كامرأة عاشت الحرب في طفولتها في لبنان وبعد أن انتهت الحرب واعتقدت أنّني سأعيش حياة طبيعيّة أُصبت بالسرطان وكان عليّ المحاربة من جديد لأحتفظ بحياتي. لذلك فعليهم أن يعرفوا أنّ الحياة ليست سهلة ولكن بوجود من يحيطهم بالرعاية والحبّ الحقيقي وبوجود الإرادة يمكنهم تخطّي كلّ العثرات وإيجاد أحلام تحرّكهم مجدّداً ليسعوا لتحقيقها».