نشأنا على سماع كلمة “الفخامة” في معظم تفاصيل حياتنا اليومية، سواء في ما نستهلكه من منتجات أو في الأجواء التي نعيشها، حتى أصبحت الكلمة مرادفاً لنمط حياة متكامل. لكن معنى الفخامة تبدّل جذرياً في السنوات الأخيرة، لا سيّما عند الجيل زد الذي أعاد صياغة مفهوم المكانة الاجتماعية وأسلوب العيش المترف. فإذا كان جيل البومرز والجيل إكس قد ربطا الفخامة بإبراز المكانة الاجتماعية على نحو صاخب ومبالغ فيه، مع التباهي بالرموز والتركيز على المنتجات المادية والمقتنيات، فإنّ جيل الألفيّة أعاد توجيه البوصلة نحو ثقافة التجربة، فالسفر والمناسبات الثقافية وتجارب الطعام الراقية غدت تعبيراً جديداً عن أسلوب حياة فاخر، مبتعدة شيئاً فشيئاً عن الصخب والزينة المتكلّفة.
أما الجيل زد، فباتت الفخامة تقوم على القيم والتجارب أكثر مما تقوم على الإرث التقليدي. إذ يرى هذا الجيل الفخامة وسيلة للتعبير عن الذات تركز على إبراز الفردية لا على الثروة المادية أو المكانة الاجتماعية. وأحد أبرز العوامل وراء هذا التحوّل هو وفرة المعلومات وسهولة الوصول إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، إذ أسهمت الصور الفاخرة المتداولة باستمرار على Instagram وYouTube وTikTok، وهي الأكثر استخداماً لدى الجيل زد، في تشكيل مفاهيم جديدة في الأذهان تركّز على الأهمية الثقافية والقيم الحقيقية والهوية الشخصية. فمع الحضور الرقمي الواسع، أصبح بإمكان الأفراد أن يكونوا من يشاؤون، بعيداً عن القيود والضغوط الاجتماعية، ضمن مجتمعات رقمية تجمعهم بأشخاص يشاركونهم القيم نفسها والرغبات والتجارب ذاتها.


ومن أبرز السمات التي ميّزت الجيل زد في إعادة تعريف الفخامة، تركيزه الكبير على الاستدامة والقيم الأخلاقية. فهو يعتبر أن الشفافية والموضة الدائرية جزء لا يتجزأ من الفخامة الحقيقية، وأنّ المنتج يكون فاخراً إذا التزم بهذه المبادئ. هذا الوعي فتح المجال أمام عالم جديد يعطي أهميّة كبيرة للمنتجات الفينتدج والمستعملة والتي أعيد تدويرها للأفضل، حتى باتت أكثر جاذبية أحيانًا من تلك الجديدة المعروضة في البوتيكات. ومع الجيل زد لا تقتصر الاستدامة على المنتجات فحسب، بل تشمل أسلوب حياة كامل يشمل الطعام الصحي والمنتجات المنزلية الصديقة للبيئة وحتّى السيارات الكهربائية. وهذه القيم دفعت العلامات الفاخرة إلى إعادة النظر في ممارساتها والإفصاح عن استراتيجياتها المستدامة للحفاظ على ولاء جيل الشباب وجذب المزيد منهم.
“الغالبية من الجيل زد (63%) والجيل الألفي (62%) على استعداد لدفع المزيد مقابل منتجات تُصنّع وفق مبادئ أخلاقية.” – tink.com


بالإضافة إلى ذلك، ترك الارتفاع المفرط للتكنولوجيا أثراً عميقاً على الطريقة التي ترغب بها الأجيال الجديدة في عيش حياتها اليومية، مؤثّراً في خياراتها الشرائية وأسلوب حياتها بشكل عام. فقد غيّر العالم الرقمي اليوم تجربة التسوّق وتوقعات المستهلكين، حيث باتت المتاجر الرئيسة تمثّل وجه العلامة التجارية، غير أنّها لن تتمكّن من الصمود ما لم تكن مدعومة بحضور قوي عبر الإنترنت. فيتوقّع الجيل زد تحديداً أن يحظى بتجربة تجارة إلكترونية سلسة، حيث يتمكّن من إتمام عملية الشراء بضغطة زر واحدة ليصل المنتج مباشرةً إلى عتبة منزله من دون أي عناء. كما برزت بقوة مفاهيم السرد الرقمي والتجربة الافتراضية للمنتجات، إذ يتطلّع المستهلكون إلى مستوى أعلى من التفاعل الرقمي يمكّنهم من معاينة القطعة بأكبر قدر من الواقعية قبل اتخاذ قرار الشراء النهائي. كما أنّ التقنيات الرقمية الحديثة مثل Web3 وموضة الميتافيرس والـNFTs الفاخرة أعادت تشكيل مفهوم الحصرية والتفرّد من خلال إتاحة الوصول المحدود والتصاميم الرقمية النادرة، ما يتماشى مع مفهوم الفخامة الهادئة.
فمع الجيل، تتعلّق الفخامة بالموازنة بين امتلاك منتج وعيش تجربة، وتُعد التجربة القيمة الجوهرية. بالنسبة لهم، الفخامة هي أن نكون جزءاً من ثقافة علامة تجارية ما أو مجتمعها، ما دفع دور الأزياء الكبرى إلى التركيز على المؤثّرين والمنصات الرقمية لبناء روابط مع المستهلكين تمنحهم شعوراً بالانتماء لعائلة العلامة. وهذا هو جوهر الفخامة المجتمعية. كما أنّ صعود مفهوم الفخامة الهادئة مقارنة بالسنوات الماضية عندما كانت المنتجات المليئة بالشعارات مطلباً رئيسياً، يُعد من أبرز التحوّلات. فالجيل زد يميل إلى العلامات التي تعتمد على البساطة والحرفية العالية والجودة والقيم الأخلاقية والأسلوب المينيمالي، بهدف بناء خزانة ملابس أساسية كبسولية ومتعدّدة الاستخدامات. فعوضاً عن التركيز على جمالية صارخة مليئة بالشعارات، يتّجه الجيل الجديد نحو ما هو أنيق وبسيط. وعلامات مثل Bottega Veneta و Max Mara و The Row و Loro Pianaو Brunello Cucinelli أعادت صياغة مفهوم الفخامة الهادئة من خلال منتجات راقية ترتكز على الحرفية المتقنة والبساطة وتعدد الاستخدامات. فبدلاً من الإفراط في الشراء أو السعي لاقتناء قطع تبطل موضتها بسرعة، يجد الجيل زد القيمة في المينيمالية والتفاصيل الدقيقة والعمل الحرفي المتقن الذي يمنح القطعة مكانتها النخبوية.

“جيل الألفية الذي يعيش ذروة قوته الشرائية، والجيل زد بقوّته الشرائية الصاعدة، يقودان تحوّلاً نحو “فخامة أقرب إلى المتناول”، حيث الأولوية للجودة والاستدامة وتجارب تسوّق سلسة وآمنة.” – tink.com
في النهاية، يتمحور توجه الجيل زد حول القيم والأخلاقيات والشفافية، مع تفضيل الفخامة الهادئة وغير الصاخبة. إنه جيل أحدث تأثيراً اجتماعياً واسعاً، لم يعد يرى الفخامة في مجرد امتلاك منتج نادر أو باهظ الثمن، بل في اقتناء ما هو مستدام، ذو معنى، شخصي، يعكس الهوية الفردية. بالنسبة إليه، ترتبط الفخامة بالقيمة العاطفية، فيما فقدت المعاني التقليدية للفخامة جاذبيتها. فالمصداقية والشفافية واحترام القيم الفردية أصبحت جوهر الفخامة الحقيقية في عصر الجيل الرقمي.
اقرئي المزيد: مجموعة “إرث” من مجوهرات الفردان تكرّم تراث الخليج