لا تتطلب البطولة بالضرورة عضلات مفتولة ولا تشبه البطلات في أيامنا الحالية ما اعتدنا أن نراه في المسلسلات والأفلام الهوليوودية، فهناك شابات جميلات ومليئات بالأنوثة والنعومة والأناقة، هنّ بطلات شرسات ورياضيات قويات على أرض الواقع، والدليل الأمثل الشابة اللبنانية نيللي عطار التي تمكنت من تحقيق إنجاز غير مسبوق عربياً بعد تسلّقها أعلى خمس قمم في العالم، آخرها كان قمتي ماكالو وكانغشينجونغا، لتثبت أنّ المرأة قادرة على تحقيق كل ما تصبو إليه حين تعقد العزم وتملك الشغف وتوجهه في المسار المناسب.
قبل سنوات التقيت بنيللي للحديث عن حبها للرقص وتأسيسها لأكاديمية لتعليمه في السعودية، ولم أنسى أبداً رعشة صوتها حين أخبرتني أن الرقص والرياضة كانا وسيلتها لتخطي حزنها الكبير على وفاة والدها الذي كان أهم شخص في حياتها. اليوم يتجدد اللقاء بعد أن صارت نيللي بطلة في التسلّق محققة أنجازات عالمية تكتب في سجل إنجازات النساء العربيات، فكيف كانت بداياتها؟ تقول “بدأت بممارسة الرياضة منذ سنوات بعيدة من ضمنها الرقص والمشي والتسلق، وقد اصطحبني والدي حين كنت في سن 17 لتسلّق جبل مرتفع وكان هذا النشاط الذي قمنا به من أجمل ذكرياتي وإنجازاتي التي أفتخر بها حتى اليوم، حيث تحرّك داخلي شيء ما واكتشفت حبي للمغامرة، بعد دخولي الجامعة توجهت أكثر نحو الرقص ونوعّت نشاطاتي الرياضية، حتى عام 2015 حين قررت تسلّق قمة كليمنجارو، في ذلك الوقت كنت أنتقل من عمل إلى مجال آخر، وكان لديّ فصل الصيف كاملاً لكي أستعد، وكان الصعود إلى القمة نقطة تحوّل كبيرة في حياتي، وبعد ذلك صرت حريصة على تسلق قمة في كل عام، وبتّ أنوّع وأختار الجبال الأصعب والأعلى والأقسى، لأني كنت أرصد التحسن في أدائي وقدراتي، حتى تمكنت من صعود 4 أو 5 قمم في السنة، حتى عام 2019 حين تسلقت إيفرست وهي أعلى قمة في العالم. بصراحة لم أعلم إلى أين سيأخذني هذا الطريق ولكني كنت أقوم بأمر أحبه. في عام 2022 حين تسلقت كي 2 وهو أعلى جبل في العالم بعد إيفرست، بدأت أحظى برعاية، فصار التسلق بمثابة عمل مدفوع، مع العلم أن الجزء الأصعب من التسلّق هو عدم وجود الدعم المادي الدائم، ولكن مع الوقت بدأت الشركات الكبرى تثق بي وتتابعني وتتعامل معي لأسباب مختلفة، منها التعاون في حملات للاهتمام بالبيئة ولتشجيع الرياضة ولتوفير فرص عمل لأبناء البلد الذي أقصده للتسلّق”.

في كل رحلة أكسب صداقات ومعارف وأحسن علاقاتي الإنسانية
خلال العام الفائت تعاونت نيللي مع شركة معروفة لإجراء واحدة من أكبر حملات التنظيف في نيبال، ما يؤكد أن هدفها من التسلق ليس محصوراً بالحيّز الرياضي والقيام بمغامرات، بل إنها ترغب بالتركيز على قضايا إنسانية وبيئية ومعيشية مهمة ويجب توجيه الانتباه نحوها لزيادة الوعي المجتمعي حولها، تقول “ما أحبه في التسلق هو أنه يذكرني بما أعشقه في الحياة، يعلمني الكثير عن الطبيعة والنظام البيئي والاستدامة، يخولني مساعدة ودعم السكان في الدول الفقيرة عبر خلق فرص عمل لهم، وهو ما قمنا به خلال حملة التنظيف، حيث خدمنا البيئة ونظفنا الطبيعة، كما يذكرني بأهمية العمل الجماعي والتواجد ضمن فريق متجانس ومتعاون لتخطي المعوقات وتحقيق النجاح أثناء التسلق. أنا لا أضمن الوصول للقمة بشكل دائم فهذا الأمر رهن بالظروف والصعوبات التي نواجهها، ولكني في كل رحلة أكسب صداقات ومعارف وأحسن علاقاتي الإنسانية وأتعرف على بيئة وحضارة وثقافة جديدة، ما يعني الكثير من المتعة والأوقات الثمينة”.
تكمل “حين تسلقت كي 2، قمت بحملة لجمع التبرعات لصالح جمعية مرضى السرطان من الأطفال في لبنان، وفي كل مرة أخطط لتسلق قمة جديدة أسعى جاهدة لإطلاق حملات مساعدة، بالتعاون مع شركات رعاية متخصصة، بهذه الطريقة أكون صوتاً يخدم الإنسان ويساعده ويحقق في الوقت ذاته الكثير لنفسه ولحياته وصحته النفسية والجسدية”.

لا أفقد الشغف أبداً وهو ما يجعلني أبحث عن الجبال وأجد المزيد منها
تتحدى نيللي أصعب الظروف الطبيعية فوق الجبال وأثناء تسلقها، فما الذي يحركها للاستمرار وكيف يكون الاستعداد والحماس لكلّ تجربة جديدة؟ تقول “لا أفقد الشغف أبداً وهو ما يجعلني أبحث عن الجبال وأجد المزيد منها، لا أعرف أين سأصل ولكني أتمنى تسلق القمم الأربع عشر الأعلى في العالم، مع بداية كل عام أختار قمتين أو أكثر وأبدأ بالبحث والسؤال والتدرب والتواصل مع الشركات الداعمة، هذا العام مثلاً لم يكن لديّ أي داعم ولكني أردت السفر وحين قررت حصلت على داعم بشكل مفاجئ، وكأن الحياة تدعمني وتتواصل معي لكي أستمر. جسدياً يحتاج الأمر إلى تدريب متواصل وأنا أحب النشاط والتمرن، حتى حين أعود من رحلة شاقة، فلا أتوقف عن الرياضة لأكثر من بضعة أيام، فهي جزء أساسي من حياتي وروتيني اليومي”.
عرفت بفضل الرياضة والتسلق حب الذات ونقاط القوة والضعف التي لديّ
تؤكد نيللي أن التسلق والرياضة بشكل عام ساعدتها لاكتشاف الكثير عن ذاتها، “عرفت حب الذات ونقاط القوة التي لديّ وكذلك الضعف، أجرب أن أضع نيّة قبل الذهاب إلى أي قمة جديدة: ما هي أهدافي وكيف أريد أن أعود، فكل تجربة تحمل مشاعر وأشخاص وخبرات مختلفة، وكل هذه الأمور جعلتني أكثر قوة وصبراَ وتحملاً وخلصتني من الأنانية، فحين تكونين مريضة أو متعبة أو ضعيفة أثناء التسلق، عليك أن تخبري من حولك وإلا فإحتمالية الموت قريبة جداً للأسف.. أدركت خلال التسلق أن الإنسان حتى في أكثر الأوضاع صعوبة وخطورة، قادر دائماً على إيجاد الحلول لكي يبقى ويستمر، ولكن عليه أيضاً أن يتخلص من الغرور بشكل تام وأن يعترف في بعض الأحيان بأن الطبيعة غلبته أو ستغلبه إن استمر في المعاندة والإصرار على تحديها”.

في رحلتها الأخيرة لنيبال، تسلقت نيللي ثالث وخامس أعلى قمم العالم، وقد ذهبت بهدف تسلق ماكالو الذي يعتبر من أجمل الجبال، ولكن الظروف ساعدتها لتسلق كانغشينجونغا، تقول “التجربة كانت رائعة، تعرفت على أشخاص مميزين، والطبيعة كانت آسرة ولكنها صعبة، فشعرت بقوة لم يسبق لي الإحساس بها، لأني مندفعة ومستعدة جسدياً وعاطفياً ونفسياً، تحديت الثلوج والارتفاع ونقص الأوكسجين، وحين انتهيت شعرت أن لديّ المزيد من الطاقة لتسلّق المزيد، فتسلقت جبل كانغشينجونغا وكانت رحلتي مع سبع أشخاص معي الأخيرة قبل انتهاء موسم التسلق، وقد واجهتنا عاصفة قاسية جداً حيث الثلوج الكثيفة، فكانت الأيام صعبة وطويلة جداً، لكن الوصول للقمة كان الأجمل والأكثر إثارة”.
من المهم للمرأة أن تفهم ذاتها وتعرف كيف تعيش حياة حقيقية وأصيلة
تهتم المتسلقة الشابة بتحقيق التوازن في حياتها، فتعيش يومها وشبابها أثناء تواجدها بين أهلها وأًصدقائها، تعتني ببشرتها وشعرها، تهتم بإطلالاتها وتقصد السبا وتحصل على العناية الجسدية اللازمة لكي تحافظ على جمالها، ولا تهمل الرياضة أبداً لأنها جزء أساسي من سعادتها، وهي تنصح الشابات بأن يعشن حقيقتهن ولا يخشين من نظرة المجتمع ويكنّ سعيدات أثناء رحلتهن لتحقيق الأهداف، تقول “المجتمع يحدد لنا ما هو الصح والخطأ، ما الذي يجب فعله ومتى.. يضع لنا معايير قاسية وأوقاتاً محددة للزواج مثلاً أو للعمل في وظيفة ثابتة وغيرها، وإن لم نلتزم يحاسبنا بقسوة.. لكن من المهم للمرأة أن تفهم ذاتها وتعرف كيف تعيش حياة حقيقية وأصيلة، تجعلها تشعر بالراحة وبأنها سعيدة.. كثر يسألونني: ما الذي تقومين به؟ ولماذا تخصصين له هذا الوقت والجهد؟ وحوابي هو أنا سعية ووفخورة بما أعمل وهو يجلب لي الأموال أيضاَ لأنه مصدر رزقي! بالتالي فالنجاح أنت تحددينه، وحياتك لا تشبه أحد آخر، فاتبعي حلمك بوقتك الخاص وبطريقتك الخاصة وستعيشين الحياة الأجمل”.
تنوي نيللي التركيز مستقبلاً على العمل الجماعي في المجال الرياضي، وتنظيم رحلات تسلق ومشي في الطبيعة، لكي تشجع الشابات على الرياضة وتطلعهن على أهميتها ودورها لتحسين جودة الحياة، وهي مستمرة في التسلق لتصل إلى المزيد من القمم.
اقرئي المزيد: اقدم 10 حضارات في العالم تختصر تاريخ البشرية