دينا زين الدين-بيروت
الإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى وجود الناس من حوله حتى يشعر بأنّ لحياته قيمة وبأنّ وجوده مؤثر، وهو لهذه الغاية يبني علاقات مع المحيطين به، بدءاً من الروابط العائليّة ووصولاً إلى الرفاق في المدرسة والجامعة والعمل. وإذا قُدّر للبعض أن يتمتّعوا بشخصيّة قويّة وبكاريزما لافتة وبقدرة على استقطاب أنظار الناس من حولهم، فهناك آخرون لا يستطيعون تكوين الصداقات ويجدون صعوبة في الوصول إلى الآخرين، فيعانون من الوحدة ومن فقدان الإحساس بالأمان والراحة النفسيّة. ما هي الأسباب التي تمنع البعض من تكوين الصداقات، وكيف السبيل لكسر الحواجز مع الآخرين وحثّهم على قبول شخصيّتنا كما هي والتفاعل معها؟
فقدان الثقة بالنفس
ليس من الضروري أن يكون لدينا عدد كبير من الأصدقاء حتى نشعر بالسعادة، ففي بعض الأحيان يكفي وجود صديق واحد حقيقي لكي يثري حياتنا. لكن من المفيد أن نبني علاقات إيجابيّة مع زملائنا في العمل أو جيراننا في الحي أو حتى رفاقنا في الجامعة أو المدرسة، وقد افتقدت سناء (27 عاماً) هذا الأمر طوال سنوات حياتها الماضية: «لا أستطيع أن أكوّن صداقات وهذا أمر منطقي نظراً إلى أنّني غير قادرة على فتح حديث مفيد مع أحد، فحين أبدأ بالكلام أتلعثم وأرتبك وأحسّ بأنّني أقول أموراً غير مترابطة، فأصمت وأنزوي بعيداً».
تضيف سناء: «تخبرني والدتي أنّني منذ سنواتي الأولى، كنت أحمل دميتي وأنزوي في غرفتي وأبدأ بالبكاء حين يقترب أحد سواها مني. لعلّ الأمر طبع متأصّل فيّ ولكنّني لا أعرف سببه، ولذلك تفشل كل محاولاتي في التغلّب على خوفي وقلّة ثقتي بنفسي حين أواجه أشخاصاً لا أعرفهم».
خذلان الشريك
تؤكد الشابة العشرينيّة أنّ مشكلتها هذه تؤثّر في علاقاتها العاطفيّة، فتُخفق في المحافظة على اهتمام الشاب الذي يرغب في التقرّب منها. أما ميرا (31 عاماً)، فواجهت هذه المشكلة بعدما تخلّى خطيبها عنها وهي تقول: «خسرت ثقتي بنفسي وقدرتي على التواصل مع مَن حولي بعدما تركني خطيبي. ابتعدت عن صديقاتي وصرت أفسّر كل تصرّفاتهن على أنّها شفقة. كنت أغار منهنّ ولم أتحمّل أن أرافقهنّ وأستمع إلى أحاديثهن، فانعزلت في عالمي الخاص. بعد فترة، تخلّصت من آثار العلاقة الفاشلة، وحاولت أن أسترجع صداقتهنّ ولكن الأوان كان قد فات. حالياً، أعيش تعيسة ولا أجد من أشكو له وحدتي وكآبتي».
الهرب من الرياء
من جهتها، تجد أسماء (24 عاماً) صعوبة في التأقلم مع الرياء السائد في كلّ مكان على حدّ قولها، لذلك تشعر بأنّها وحيدة وتفتقد أصدقاء يؤازرونها في أوقات الشدّة ويشاركونها لحظات السعادة. تقول: «لا أستطيع إمضاء الوقت في الحديث عن آخر صيحات الموضة أو عن المراكز التجاريّة أو المطاعم، وللأسف معظم من هم في مثل سنّي لا يهتمون إلا بهذه الأمور. حاولت كثيراً أن أنسجم معهم ولكنّني لا أستطيع، لذلك أجدني وحيدة في عالمي الخاص وأتمنّى أن تضع الحياة في طريقي أناساً يشاطرونني اهتماماتي».
أما سهى (36 عاماً)، فخسرت صديقاتها بعدما تزوّجن وصارت لكلّ واحدة منهنّ حياتها الخاصة، وهي تعاني من الوحدة وتخاف من المستقبل، لا سيما أنّها لم تجد بعد الزوج المناسب. تقول: «بطبعي، لست اجتماعيّة ولا أعرف كيف وأين يمكن أن أتعرّف إلى أصدقاء، وقد خسرت كل صداقاتي الماضية بسبب مشاغل الحياة. أعيش كآبة ما بعدها كآبة، وأفكّر بزيارة طبيب نفسي لأنّني أكاد أجنّ من فرط الوحدة والملل».
الخروج من العزلة
تقول الاختصاصيّة في علم الاجتماع كارين حيدر إنّ مشكلة عدم القدرة على الانسجام مع المحيط الاجتماعي صعبة ومزعجة، لا سيما إذا ترافقت مع صدمات نفسيّة سابقة أو خسارة عائليّة، فيشعر الإنسان بأنّه منعزل عن كلّ مَن حوله لفترة من الزمن، ويكون هذا الأمر في البداية اختياره الخاص، فيُبعد عنه محبّيه، وحين يرغب في العودة مجدّداً إلى نمط حياته السابق يجد أنّه خسر الكثير من المحيطين به، كما أنّه هو نفسه تغيّر ولم يعد الشخص الذي كان عليه. في هذه الحالة، يجب أن يعيد بناء علاقته بنفسه، فيكتشف ما الذي يسعده ومن هم الأشخاص الذين يستحقّون أن يناضل لاسترجاعهم، ويبدأ بالتقرّب منهم ويتعرّف على الاتجاه الذي ذهبت فيه حياتهم لكي يجد مدخلاً مناسباً إليهم.
أهميّة التخفيف من التوقّع
تتطرّق الاختصاصيّة إلى الأشخاص الذين تخلّى عنهم أصدقاؤهم، فتقول: «يجب أن نخفّف من توقّعاتنا حول تصرّف الآخرين تجاهنا ونعرف أنّ لا أحد مثالي، وأنّ المصالح الشخصيّة تتغلّب في معظم الأوقات على المشاعر الإنسانيّة، هكذا لا نُصدم حين نواجه موقفاً غير متوقّع من صديق، فنكون ديبلوماسيين في التعاطي معه، وتزداد قدرتنا على المسامحة».
حسنات الروابط الأسريّة
تشير حيدر إلى أنّ الروابط الأسريّة التي ما زالت موجودة في المجتمعات العربيّة تخفّف من شعور الإنسان بالوحدة أو العزلة إذا كان يجد صعوبة في بناء الصداقات أو المحافظة على الصداقات القديمة. وتشرح فكرتها: «ما زال الشاب أو الفتاة يعيش في منزل عائلته قبل الزواج، ما يعني أنّه على تواصل يومي مع إخوته وأبويه، بعكس الغرب الذي يعاني أهله من انعدام الروابط الأسريّة، فلا يجد الإنسان حوله من يؤنسه أو يسلّيه أو حتى يلقي التحيّة عليه. لذلك إن ضاقت بنا الدنيا، يمكننا أن نفتح حديثاً مع الوالدة أو نرافقها مثلاً لزيارة الأقارب، وحينها نكون قد فتحنا نافذة على أناس جدد لعلّهم يتحوّلون مع الوقت إلى أصدقاء دائمين».
الشعور بالفوقيّة أو التحتيّة
تبيّن الاختصاصيّة الاجتماعيّة أنّ بإمكاننا من خلال تصرّفات معيّنة أن نُبعد الأصدقاء عنّا أو نُنفر المحيطين منّا: «إذا أردنا أن نبني علاقات صداقة مع أشخاص وفي داخلنا شعور بالفوقيّة أو التحتيّة، فإنّ شعورنا سيصل إلى الآخر وسيبني حاجزاً غير مرئي معه، لن نتمكّن من تجاوزه». تضيف: «لذلك ينبغي أن نراقب تصرّفاتنا وأحاديثنا، وأن نثقّف أنفسنا كي نكون قادرين على البدء بحديث مثير للاهتمام. لن يضير بنا مثلاً إذا ادّعينا أننا مهتمّون بالأحاديث التي يبدأها زملاؤنا في العمل حتى لو كنّا نجدها غير مهمّة أو حتى سخيفة، كذلك لا يضير إذا أجرينا القليل من الأبحاث لكي نفهم ما الذي يتكلمّون عنه حين يتطرّقون إلى موضوع علمي، هكذا نثير اهتمامهم ونلفت انتباهم بثقافتنا وتنوّع معارفنا وأفكارنا».
من جهة ثانية، تلفت الاختصاصيّة إلى أهميّة ألا نفرض أنفسنا بالقوّة على مجموعة نتمنّى الانضمام إليها أو كسب صداقتها «لأنّ ذلك سيزيد من إحجامهم عنّا، وعوضاً عن ذلك علينا أن ننتظرهم حتى يبادورا هم إلى دعوتنا، شرط أن نتمتّع على الدوام بالثقة بالنفس ونحبّ ذاتنا ونقدّرها حتى يتصرّف من حولنا بالمثل».