فرح قمر-بيروت
من منّا لم تقف لساعات أمام مرآتها، تتأمّل مكامن وجهها وتحاول أن تمارس هذا الطقس الأنثوي محاولة تغيير بعض تفاصيل شكلها بما يتلاءم مع نظرة الآخرين إليها. وفي وقت تصنّف نفسها في خانة الجميلات، تراها أحياناً أخرى تتعارك مع صورتها لأنّ مرآتها تخونها، أو لأنّها تسعى لتكون أفضل في عيون الآخرين، رغم أنّها مقتنعة بمظهرها في قرارة نفسها.
تشابهت الوجوه، تغيّرت المعالم الخلقيّة، إلى درجة أنّ تحديد معايير الجمال بات صعباً. أما الأسباب فتعدّدت دوافعها، إلا أنّها تتّجه بغالبيّتها نحو «الهوس الجمالي»، هوس يطال الفتيات والسيدات وحتى الرجال. هوس يبدأ مع تخطّي المرء للأسلوب الروتيني حيث يصبح الشغل الشاغل له الوقوف لساعات أمام المرآة لتفقّد مظهره الخارجي، فيما يكمن الخطر حين تصل تداعيات هذا الهوس إلى مرض نفسي يتطلّب علاجاً سريعاً، كما يكبّد صاحبه مبالغ ماليّة طائلة إلا أنّ نظرته إلى نفسه تبقى مزعزعة.
لماذا تقع المرأة ضحيّة الهوس بشكلها الخارجي لكي تبقى في طليعة الجميلات؟ وما هي الأسباب التي تدفعها إلى الاكتراث لنظرة الآخرين بعيداً عن القناعة الذاتيّة والشعور بالرضى؟
أسئلة تأتي أجوبتها من صلب المجتمع، حيث يركز أبناؤه على المظاهر الخارجيّة غير آبهين بالمضمون، فباتت المظاهر سيّدة الحكم على الأشخاص حتى ولو كانت بصورة «مجمّلة» أو «مشوّهة».
علم النفس
يرى علم النفس أنّ نظرة الإنسان لنفسه تعود إلى منبع تربيته، فإذا كانت العائلة لا تولي أهميّة للمظهر الخارجي وتعتبر النظر في المرآة بشكل مستمرّ أمراً تافهاً، لا يحظى الطفل بالتشجيع فتضعف ثقته بنفسه مع الوقت. العائلة المهووسة بالمظهر الخارجي والتي تلاحق طفلها منتقدة إياه على أيّ تفصيل، تسبّب له مشاكل نفسيّة تنعكس سلباً خلال بناء شخصيّته وتصبح هشّة للغاية. أما العائلة التي لا تبخل على طفلها بالمديح، فيحظى بجرعة زائدة من الثقة، ما يعزّز ثقته بجماله وشخصيّته. ويؤكد علم النفس أنّ تلك النظرة لا تقف عند حدود العائلة، بل تتخطّى ذلك مع نظرة الآخرين في مجتمع يرسم معالم الجمال بشكل قاس، مستمداً إياها من مواقع التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلاميّة.
لا للإحباط!
مع انتشار الصورة في عصرنا هذا، أصبح للجمال معيار معيّن، نراه في المجلات النسائيّة ويتجلّى خصوصاً في أجسام العارضات وجاذبيّة المشاهير، حتى بدأ الأمر يعني الرجال أيضاً. وليس هذا الانتشار الواسع للصورة اليوم بلا تأثير واضح على زيادة شعور القبح لدى البعض.
أضحى شعور القبح وعدم الارتقاء إلى المستوى المطلوب في ما يتعلّق بالجمال منتشراً جداً، ويشكّل عبئاً على عدد متزايد من الأشخاص، النساء والمراهقات بشكل خاصّ. ففي كل المجلات، نرى نوعاً معيّناً من الجمال مسوّقاً، وكأنّه يتعيّن على كلّ امرأة أن تتمتّع بهذه المعايير لتكون جميلة. كما أنّ الجمال أصبح شرطاً للنجاح وللحبّ، وبالتالي من ينقصها الجمال غير جديرة بالحب أو بالنجاح. لكن لا يتأثر الجميع بالطريقة نفسها، فيتمنّى عدد من النساء التمتّع بهذه الخصائص الجماليّة ويتوقّفن طويلاً عند الصفحات التي تظهر فتيات جميلات، لكنهنّ لا يدعن ذلك يسيطر على حياتهنّ ويجعلهنّ يظننّ أنهنّ قبيحات أو أنهنّ يفتقدن أمراً ثميناً. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ بعض النساء أو الفتيات يتّخذن إلى حدّ كبير بهذه الصور والمعايير الجماليّة، وعندما يدركن أنّ أشكالهنّ ليست متطابقة تماماً مع ما يحلمن به، يصبن بنوع من الإحباط والهوس.
نظرة الآخر
من المهم التشديد على فكرة أنّ الشعور بالقبح موضوع لا يتجزأ عن موضوع نظرة الآخرين وحكمهم، فيقضي الناس وقتهم بالثرثرة على هذا الشخص أو ذاك، أو في المقارنة بينهما. لذا من الطبيعي أن يشعر بعض ممن يفتقدن إلى الثقة بالذات بانزعاج من أشكالهن، فيعتقدن أنّ كل الأنظار مسلّطة عليهن، حتى لو لم يكن الأمر صحيحاً، وأنّ الجميع لا يرون إلا عيوبهنّ التي يبالغن فيها في مخيّلتهن الخصبة. وكثيراً ما يتحوّل الأمر مرضاً في بعض الحالات القصوى، بل فوبيا حقيقيّة، ويصبح جسم المرأة موضوع خوف وتقتنع بأنّ الآخرين لا يرون إلا أنفها الطويل أو ردفيها الكبيرين… وليس من الغريب أن تؤثر هذه الفوبيا على حياة أولئك النساء العاطفيّة، فتمنعهنّ من عيش علاقة حب طبيعيّة، لاقتناعهنّ بأنّ ليس من رجل بإمكانه الانجذاب اليهنّ، وإن فعل، فهو بالطبع يسخر منهن، فيلجأن في بعض الحالات إلى الجراحات التجميليّة، لكنّ النتيجة لا تكون غالباً كما يتوقّعنها، لأنهنّ بانتظار تغيّر كلي في الشكل، فيحملن خوفهنّ إلى جزء آخر من أجسامهن.
حوّلي عيوبك إلى جمال
قلما تكون المرأة راضية تماماً عن نفسها وعن شكلها الخارجي تحديداً، إذ من الطبيعي أن تنزعج بسبب أنف بارز أو بعض الكيلوغرامات الزائدة. لكن كثيراً ما تكون هذه العيوب عامل جذب للجنس الآخر، على عكس ما تظنه كثيرات، هي عيوب بسيطة ولكنّها تعقّد حياتنا في الكثير من الأحيان، فنصب اهتمامنا كله عليها، ونظنّ أنّ الناس لا يرون إلا ذلك فينا. يركّز المرء، لا سيما المرأة، على جزء من جسمها، وأحياناً على تفصيل في تصرّفاتها، لأنّها ببساطة ترغب في أن تتشبّه بإحدى العارضات أو الممثلات.
الرجال أيضاً…
لم تعد جلسات التجميل والساعات التي تُمضى قبالة المرآة حكراً على النساء، إذ يبدو أنّها غرّت العديد من الرجال، ودفعتهم إلى التخلّي عن صورة الشخص الرجولي الذي قلما يهمّه شكله والذي يركز بشكل أساسي على قوّته البدنيّة، وأضحى الرجل العصري يرغب في تدليل بشرته وتخصيص الوقت للاعتناء بجماله، وهو لا يتردّد في التوجّه إلى مراكز التجميل ولا يتوانى عن استخدام مستحضرات التجميل.
شهادات حيّة
مخطئ من يظن أنّ الهوس بالشكل الخارجي حكر على المراهقين والمراهقات أو الشباب، بل يتّسع مجاله ليطال الناضجين ولا سيما النساء. فالسيدة سامية مستعدّة لإنفاق كل أموالها لتظهر بشكل ينافس صديقاتها في المجتمع. لا يقتصر اهتمام السيدة الخمسينيّة التي تنتمي إلى الطبقة البرجوازيّة على التبرّج واتباع آخر صيحات الموضة، بل يلامس حكاية عمليات التجميل التي تجتاح وجهها وجسدها. «أخشى الشيخوخة لأنّها تذكّرني بالموت، كما أريد أن أبقى دائماً جميلة في نظر الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب إنفاق كل ما جنيته وزوجي». تلك السيدة غالباً ما تجد نفسها جميلة في المرآة حتى لو كانت التجاعيد تملأ وجهها وتفاصيل جسمها.
أما رانيا التي لا تبلغ من العمر سوى 26 عاماً، فتبدو أقرب إلى الهوس منها إلى الحالة البديهيّة التي تعايشها كل شابة في هذا العمر، فدرجة الهوس تلك تصل بها إلى حدّ عدم ارتداء أي قطعة تشتريها وبأي ثمن أكثر من مرة. ورغم أنّها تستشعر من حدّة الملاحظات التي تهبط عليها أنّها تبالغ في وضع الماكياج، إلا هذا الأخير يشعرها براحة نفسيّة، فتحوّلت الموضة عند رانيا إلى هوس بعدما وجدت نفسها في غير مناسبة قابلة للسقوط في فخ المرض إذا نظرت إلى نفسها في المرأة من دون ماكياج، ليس لأنّ تفاصيل وجهها غير متجانسة أو غير جميلة، بل لأنّها اعتادت عدم الخروج من منزلها من دون تبرّج.
حالة استثنائيّة
لا يقتصر الهوس بالمظهر الخارجي على الجنس اللطيف. فروجيه خير مثال على ذلك، إذ يشكل حالة ذكوريّة استثنائيّة ليس من حيث الاهتمام بمظهره الخارجي كسائر الرجال، بل من حيث مبالغته في شراء الأغراض والأكسسوارات التي تضمن بقاءه على الموضة ولافتاً للأنظار. يقول الشاب العشريني: «لا أعتبره هوساً، إنّه ترتيب فقط. من المهم أن تجد نفسك جميلاً كي يجدك الآخرون جميلاً وإلا ستكون عابر سبيل شأنك شأن كثيرين في هذه الدنيا، وأنا لا أريد أن أكون كذلك، كما أنّني أسخر ممن يقولون إنّ ما أفعله هو هوس مرضي. إنّها الموضة فحسب، فليذهبوا إلى الخارج وليراقبوا كيف يتصرّف الشباب؟».
إذاً، قد يكون اهتمامك بمظهرك الخارجي مبالغاً فيه إلى حدّ الهوس. هوس قد يكون مرضياً في كثير من الأحيان كما قد يكون مجرّد هواية ومتعة عنوانها العريض: الاهتمام بالذات لتبدي جميلة في عيون الآخرين قبل عيونك. وبين الحالتين شعرة لا بدّ أن تتحكّمي بها كي لا تسقطي في فخّ الهوس المزمن الذي يرافقك منذ طفولتك ربما إلى مرحلة متقدّمة وترسم شرخاً بين مظهرك البراق ونفسيّتك المرهقة والقلقة.