فؤاد نجم-بيروت
قد تكون الوحدة ملجأ كثيرات، فيهربن من كل ما يؤرقهنّ ليجدن مع ذواتهنّ الملاذ الأخير من الآخرين. قد تعطي هذه الوحدة بعض الأمان أو تؤمّن راحة موقّتة، غير أنّها قد تصبح المسبّب الأساسيّ للأمراض التي تستوطن أجسادهنّ ونفوسهنّ في حال لم يكسرن حاجز الذات ليعبّرن نحو الآخرين بآلامهنّ ومشاكلهن، إذ يشير الأطباء إلى الكثير من الحالات التي تتحوّل فيها الوحدة من إطار تصفية الذهن إلى «وحدة مرضيّة».
في الضوضاء الذي نعيش فيها، لا بدّ من مساحة خاصة بالإنسان. فليس للمرء صديق أقرب من نفسه. ولا شك أنّ غالبيّة لحظات الإبداع والتفكير العميق ودراسة الخطط الفرديّة ومراجعة الحسابات هي لحظات لا يشاركنا فيها إلى ذاتنا، شرط أن تكون اختياريّة أي ألّا يشعر الإنسان بأنّه وحيد لأنّ هذا الشعور يمثّل نقطة البدء لعدد من المشاكل التي تطال الإنسان. في هذا الإطار، أثبتت دراسات حديثة مدى ارتباط بعض الأمراض الصحيّة بالوحدة، فترفع من خطر الإصابة بمشاكل القلب حيناً، وتسرّع بوفاة كبار السنّ أحياناً كثيرة.
وفيما تظهر العزلة الاجتماعيّة لدى الطبقات المتوسطة والأقلّ تعلّماً ورخاء على المستوى المعيشي، تؤكد بعض الدراسات أنّ مرضى القلب الذين يعيشون وحدهم أكثر عرضة للموت المبكر من الذين يحاطون بالأهل والأقارب.
ففي أحد الشوارع، كانت تسكن هنادي المرأة التي ودّعت سنّها السبعين وحيدة في منزل صغير عاشت فيه لوحدها أكثر من عقدين كاملين بعدما هاجر أبناؤها الثلاثة تاركين لها خادمة تزورها مرة أسبوعياً. فهنادي لم تكن صحّتها سيّئة كما يقول جيرانها بل كان في إمكانها تدبير أمورها من دون مساعدة، لكنّ جيرانها يجزمون أنّ حزنها ووحدتها عجلا في وفاتها فتوفّيت بنوبة قلبيّة ولم يُكتشف الأمر إلا بعد يومين موعد حضور الخادمة. وينقل جيرانها، أنّها في الفترة الأخيرة باتت قليلة الكلام شاحبة الوجه، وما كان يسمع صوتها إلا عند موعد حضور الخادمة التي غدت كل حياتها، ما يؤكّد أنّ العلاقات الاجتماعيّة هي علاج طبيّ أساسيّ، يقلّص من حدّة الشعور بالوحدة وبالتالي من خطر الإصابة بأزمات قلبيّة متكرّرة.
كيف تعرفين أنّك تعانين من الوحدة؟
لا يتطلّب معرفة هذا الشعور الكثير من الجهد، فيكفي ألا يرنّ هاتفك إلا نادراً، ألا يطرق بابك صديق، وأن تلاحظي أنّ أكثر الأماكن التي تذهبين إليها تكونين فيها بمفردك، وأحياناً كثيرة قد تكونين محاطة بكثير من الناس لكنّك لا تخالطينهم اجتماعياً، فلا تتحدثّين معهم ولا تشاركينهم أخبارك وتكتشفين أنّك لا تعرفين إلا القليل عنهم.
لكن كل تلك المؤشرات لا تعكس مشكلة حقيقيّة إلا عندما تشعرين بأنّ وحدتك تخنقك، أي تشعرين بالحاجة إلى الآخرين وتعجزين عن التواصل معهم. في هذه الحالة لا تتردّدي في أن تكسري الحواجز وأن تتواصلي مع أشخاص مهما بدوا بعيدين عنك، ولا تتردّدي في زيارة أحد الاختصاصيين، لا سيما إنّ هذا الشعور قد يتفاقم إذا لم تضعي حداً له.
الوحدة والأمراض
قد يبدو ما حصل مع هنادي تحليلاً لا يستند إلى علم وتشخيص حقيقيين، غير أنّ دراسات عدة جزمت الرابط القوي بين الوحدة وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، فضلاً عن الكثير من الأمراض التي لها علاقة بالاضطرابات العصبيّة التي هي في الأصل نتيجة للاكتئاب الذي يصيب المرء.
أما الأكثر خطراً، فيكمن في أنّ الوحدة قد تودي بحياة كبار السنّ إلى الخرف، إذ أظهرت دراسة أجراها معهد FIU Amsterdam في هولندا أنّ الشخص الذي يعاني الشعور بالوحدة يكون أكثر عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر وغيره من الأمراض النفسيّة الأخرى بمقدار الضعف خلال ثلاثة أعوام من هذه الحالة، فضلاً عن ملاحظة الوفاة المفاجئة لدى المسنّين الذين يشتكون من العزلة، مفرّقين بين الذين يسكنون بمفردهم بإرادتهم وبين الذين يعانون من الشعور بالحرمان الاجتماعي. أضافت الدراسة أنّ الشعور بالعزلة قد يحدث تغييرات في الهرمونات والمواد الكيميائيّة في الدماغ تقود إلى مشاكل أخرى كالاكتئاب والاحباط، فيصاب المرء بالعجز والوفاة المبكرة.
ويرى علم النفس أنّه كلما عاش الشخص منعزلاً عن محيطه، كلما أصابته الكآبة فأمراض عضويّة متعدّدة، ما يشير الى علاقة أساسيّة بين الشعور بالوحدة والإصابة بأمراض مختلفة. وفي وقت تُعزى أسباب الوحدة إلى معاملة الوالدين والتغيّرات المرحليّة، ناهيك عن عدم تجاوب المحيط مع تطلّعات المراهق، يؤكد علم النفس أنّه يصيب كبار السنّ نتيجة إهمال أقاربهم لهم. فهي سلوك يظهر بسبب عدم إشباع حاجات الحبّ والاحترام والانتماء.
التغلّب على الوحدة
ويبقى التغلّب على مشاعر الوحدة عبر الالتزام ببعض الخطوات، السبيل الوحيد لتلافي الإصابة بمشاكل نفسيّة وصحيّة في آن، إليك أبرزها:
– انخرطي في المجتمع أكثر وتبادلي أفراحك وهمومك ومخاوفك مع المحيط، بهدف التصدّي للعادات التي تغذّي الشعور بالوحدة.
– شاركي بنشاطات ترفيهيّة، إذ إنّ دراسات عدة أثبتت أنّه كلما كان جدول النشاطات مكتظاً ومتشعباً، كلما تقلّص الشعور بالوحدة.
الوحدة مرادف لثورة شخصيّة حقيقيّة، لا بد من الدخول في متاهاتها للتمكّن من الخروج منها. فبدل اعتبارها عائقاً، يمكن تصنيفها كطريقة لإعادة توجيه الحياة في الاتّجاه الصحيح. من الصعب تخطّي فصول الوحدة التي تتراوح بين الشعور بالخيبة والاكتئاب والحزن الشديد، لكن يمكن تحويلها إلى تجارب إيجابيّة.
لا شكّ أنّ الحالة النفسيّة والحالة الجسديّة هما وجهان لعملة واحدة، تتطلّب رعاية مستدامة تلافياً لتدهور الحالة المرضيّة في المستقبل. ففي ظلّ التطوّر العلمي، بات واضحاً مدى انعكاس الظروف النفسيّة السيّئة سلباً على الصحة العامة ومدى دورها المباشر في فقدان الحياة.