زيارة إلى مدينة «سالزبورغ» الباروكية التي تألّقت بحدائقها وقصورها وكنائسها وقلعتها، وتفاخرت بفنّها الراقي وشعبها الطيّب المبدع..
لو كانت الجميلة «سالزبورغ» لتختار اسماً جديداً لها اليوم، لوقع اختيار أهلها وزوّارها على اسم «موتسارتبورغ». فالمدينة التي أبصر فيها الموسيقار العبقري «فولفغانغ أماديوس موتسارت» النور تدين بشهرتها العالمية له. وبالرغم من أنّ اسمها يعني حرفيّاً «قصر الملح» نسبةً إلى مناجم الملح التي اكتُشفت في أحد جبالها منذ آلاف السنين، إلّا أنّ المدينة اليوم هي بعيدة كلّ البُعد عن عالم الملح ومناجمه وغارقة في سمفونيّة تبدأ حركتها الأولى السريعة على ضفتَي نهرها «سالزاخ» Salzach، وتُستكمل بحركة ثانية بطيئة في حديقة «ميرابيل»، لتتبعها حركة ثالثة تتمايل في شوارعها الضيّقة القابعة عند أقدام جبل صخري، ولتُختتم بحركة رابعة على أعلى تلالها التي تُكلّلها الثلوج وقلعة عائدة للقرون الوسطى ومتحف للفنون المعاصرة. تأخذكم «هيا mbc» في هذه السطور برحلة إلى المدينة النمساوية التي أُدرجت على لائحة التراث العالمي لليونيسكو لزيارة أبرز معالمها التي تجتذب ذوّاقة الموسيقى والفنون والطبيعة من كلّ حدب وصوب.
على ضفّتَي «سالزاخ»
تمتدّ على ضفتَي نهر «سالزاخ» فيلّات باروكية الطابع وشوارع قديمة مؤلّفة من مقاهي ومطاعم وفنادق ومحال تجارية أو أخرى مخصّصة لصناعات حرفيّة متنوّعة كالفخّار والخزفيّات والأحذية وحقائب اليد الجلديّة، وأخرى استلزمت صناعتها في الماضي الكثير من الماء فكان أساسها غارقاً في ماء النهر. أمّا اليوم فقد اتسع الرصيف النهري بحكم بعض التعديلات العمرانية التي أُدخلت على بنية المدينة وأبعدت هذه المباني عن النهر، وتمتدّ الأرصفة على طول ضفّتَي النهر بحيث تشكّل ملاذاً لعشّاق ركوب الدرّاجات والمشي. فبدءاً من ساعات الصباح الأولى، يبدأ سكّان المدينة وزوّارها التوّاقين إلى تنشّق هوائها العذب والاستمتاع بمنظر واجهتها النهرية بالعدو أو المشي، أو حتّى ركوب الدرّاجة على طول أرصفة إحدى الضفّتَين اللتين يصل بينهما مجموعة من الجسور الخشبيّة أو الحديديّة أو الإسمنتية المخصّصة إمّا للمشاة فقط أو للسيّارات.
في حديقة «ميرابيل»
قد تكون حديقة «ميرابيل» الشهيرة محطّة لكلّ سائح في المدينة كونها تطلّ على معظم معالم «سالزبورغ» فتؤمّن للزائر لوحة بانورامية رائعة زُيّنت بألوان الطبيعة مع تبدّل الفصول، إلّا أنّ تاريخ هذه الحديقة والقصر باروكي الطابع الذي يحمل الاسم نفسه هو مذهل ومثير للاهتمام كونه كان شاهداً على أكثر قصص الحبّ سرّية وغرابة في «سالزبورغ» في القرن السابع عشر. فقد بُني القصر في العام 1606 بناءً لطلب الأمير «فولف دايتريش فون رايتنو» الذي أراده هديّة لحبيبته «سالومي آلت» وليخفي أسرار حبّه بين جدرانه. في حين يتداخل في تصميم الحديقة الباروكية عناصر عدّة تجعل منها مكاناً ساحراً، إذ تبرز عند حدودها الخلفيّة بقايا سور مدينة «سالزبورغ» القديم، في حين يقود ممرّ ضيّق إلى كنز فنّي فريد من نوعه، فيُفاجأ الزائر أثناء تنزّهه في الحديقة بمسرح صغير في الهواء الطلق يتميّز بكواليسه المؤلّفة من صفوف من الأشجار المتداخلة بعضها ببعض يختفي الممثّلون وراءها لتغيير ملابسهم أثناء أدائهم لعمل مسرحي معيّن. ومع استكمال المشوار في الحديقة، يُفاجأ الزائر أيضاً بمجموعات من السيّاح الذين يعيدون تمثيل أحد مشاهد الفيلم الموسيقي الكلاسيكي الشهير Sound of Music فيتمايلون منشدين أغنية «دو ري مي» عند القنطرة الخضراء التي كانت «ماريا» وأفراد عائلة «فون تراب» يركضون تحتها في أحد مشاهد الفيلم الذي صُوّر بمعظمه في المدينة الألبيّة.
لكلّ زاوية قصّة
يكاد السائح في «سالزبورغ» لا يخطو خطوة من دون أن تخبّئ له كلّ زاوية من شوارعها الضيّقة حكاية قديمة أو أخرى حديثة مرتبطة بحدث تاريخي أو عمل فنّي أو اكتشاف علمي أو ابتكار فريد من نوعه أو عمل هوليوودي أو حتّى بوليوودي. ففي هذا المبنى انتقل «موتسارت» للعيش مع أفراد عائلته التي كانت ميسورة الحال، وهذا المبنى بالتحديد قد دُمّر بقنابل الجيش الأميركي خلال الحرب العالميّة الثانية وأُعيد بناؤه وترميمه بهبات من اليابانيين الذين يُعتبرون من أكثر الشعوب إعجاباً وإخلاصاً لفنّ «موتسارت». ومقابل المبنى الذي عاش فيه الموسيقار السالزبورغي ولد الفيزيائي كريستيان دوبلر صاحب نظرية «دوبلر» الشهيرة. وعند زاوية هذا المبنى القديم علقت دبّابة للجيش الأميركي ولا تزال آثارها جلّية على حائط المبنى بالرغم من خضوعه على مرّ السنين لإعادة ترميم، وفي ذاك الشارع صوّر الممثّل الأميركي طوم كروز مشاهد من فيلمه Knight and Day، وعند شبّاك ذاك المقهى جلست كاميرون دياز منتظرة كروز. وفي هذه الفيلّا الجميلة عاشت عائلة «فون تراب» السالزبورغية الحقيقية، وفي هذا المطعم ابتكر صانع الحلوى بول فورست شوكولاته «موتسارتكوغل»، وفي هذا الشارع يقع أقدم مخبز في المدينة حيث لا يزال الخُبز يُصنع على الطريقة التقليديّة ويُقدّم طازجاً لكلّ الزبائن. باختصار، لا يخلو شارع من شوارع هذه المدينة الألبيّة من قصّة يحكيها لزائره ويُذهل بها عشّاق «سالزبورع» بالغنى الثقافي والفنّي والعمراني الذي تحتويه.
من أعلى التلال
بالرغم من أنّ منظر المدينة الأفقي عن ضفّة النهر لا يقلّ سحراً عن المناظر المذهلة لـ«سالزبورغ» من أعلى تلالها، إلّا أنّه لا بدّ من زيارة أعلى القلعة التي بدأ بناؤها في القرن الحادي عشر، والتي تُعتبر من أقدم القلاع الأوروبية العائدة لتلك الحقبة. فمن أعلى التلّ الذي شُيّدت عليه هذه القلعة يُمكن رؤية معالم المدينة النمساوية كافّة. ومن هذه النقطة بالتحديد، رسم جوهان مايكل ساتلر لوحة بانوراميّة للمدينة في العام 1829. يُمكن أيضاً مشاهدة هذه اللوحة اليوم في معرض Salzburg Panorama الواقع بجانب المتحف الرئيس. أمّا على التلّة الواقعة في الجهّة نفسها من القلعة، فيُمكن زيارة متحف الفنّ المعاصر الذي يحوي عروضاً متنوّعة لفنّانين نمساويّين وعالميّين كمعرض منحوتات ولوحات الفنّان الشهير ألبيرتو جياكوميتي.