منال الضويان: التغيير نحو الفن المستدام يحتاج قناعةل كبيرة فيكون قراراً شخصياً مؤثراً على الجماعة

 

اللقاء مع الفنانة السعودية منال الضويان يبدو كأنه خارج الزمن، فأنت في حضرة امرأة مخضرمة واعية ومثقفة ومدركة لدورها ولأهمية فنها واجتهادها في تقديمه، تأخذك إلى عالمها بسلاسة وتشعرين أنك تنهلين من بحر مليء بالمعرفة. ولأنها لا تغيب عن أهم المستجدات في حياة شعب بلدها والدول العربية والعالم، فقد أدركت الفنانة التي مثلت المملكة في بينالي البندقية خلال العام الفائت، أن الأرض التي تحبها وتحترم خيراتها هي اليوم بخطر، وأن الواجب الأخلاقي والإنساني لها كفنانة هو أن ترفع الصوت من خلال أعمالها لتظهر تمسكها بها وتمعن في إبراز جمالها وطرق المحافظة عليها. فخوضي في حوار تصاعدي معها، ستجدين فيه الكثير من الإجابات عن أسئلة تتعلق بالفن ورسائله ومعالجاته لقضايا المجتمعات، وعلاقته بالاستدامة التي تبدو اليوم الأمل الوحيد لنا لإنقاذ أرضنا والحفاظ على أجمل ما فيها وهي طبيعتها وثرواتها وخيراتها.

قلت في لقاء سابق أنك اليوم تصبين اهتمامك على البيئة وتفكرين كيف يدمر الإنسان هذا الكوكب الذي نعيش عليه، ما هي المشاهدات والمواقف التي عشتها وجعلتك تصلين إلى هذه القناعة؟
كفنانة أعيش تقريباً في الطائرة فأنا في حال ترحال دائم، سواء لكي أدعم معارضي أو أزور المتاحف وأقابل القيمين، في العام الفائت جلت حول العالم مرتين ونصف، وزياراتي للكثير من الدول سمحت لي أن أشاهد بأم العين التغييرات المناخية الحاصلة، عشت عواصف جليدية في أميركا وتايفون في اليابان، وأرى خطورة قضية التصحر وتأثيرها على البيئة والطقس.. إنها مشاهدات بسيطة لمواطنة عادية تتنقل وتتعرف على أشخاص من مختلف الجنسيات يشاركونها أيضاً هواجسهم بسبب التقلبات المناخية الحادة. كما أن عملي على عدة مشاريع ذات مواضيع مختلفة، تأخذني إلى أماكن أبحاث تجعلني أتعرف على تفاصيل كثيرة تتعلق بالطبيعة، وخلال أحد مشاريعي لمتحف البحر الأحمر، قررت التركيز على المرجان كشكل وألوان وطبيعة، وبعد دراسات معمقة كون مبدأ عملي في الفن المفاهيمي يبدأ من البحث، اكتشفت أن المرجان يموت بنسب كبيرة في كل دول العالم، فقد تغيرت درجة الحرارة في البحار بسبب الظروف المناخية، ما أثر على حياة هذه الثروة البحرية المهمة. بالتالي جزء من اهتمامي ينبعه من مشاهدات شخصية، وجزء آخر يعود إلى طبيعة أبحاثي الفنية، وفي الحالتين فقد كان لا بد لي من التفاتة كبيرة نحو البيئة، لأن الضرر الذي يحدث سيؤثر على الإنسان حالياً ومستقبلا، لذا فإن الكل لديه مسؤولية سواء شخصية أم جماعية.

 

هل من السهل على الفنان أن يحوّل أدواته ومواده ورؤيته الفنية باتجاه خيارات صديقة للبيئة؟

هذا التغيير ليس سهلاً، بل يحتاج إلى قناعة كبيرة فيأتي من القلب والعقل، هو قرار شخصي ولكنه يؤثر على الجماعة، فالعمل الفني حين يتداول في المجتمع، هو يهدف إلى طرح أسئلة وجعل الجمهور يفكر ويتحرك باتجاهات إيجابية، وأحياناً يحرك أفكاراً سلبية ليضيء على مشاكل ما، أعتقد أن التغيّرات البيئية هي قضية عالمية تحتاج إلى تظافر جهود كل التخصصات الحيوية: كالمهندسين والعلماء والفنانين والصحافيين، وكل من يتحمل مسؤولية في مجال وظيفته.

ترين أيضاً أنه على النساء تحمل مسؤولية تعليم الجيل الجديد كيفية الاهتمام بهذه الأرض، لماذا المرأة بالتحديد، وبأي سياق، هل التربية الأم لأولادها، أم عبر النظم التعليمية، أو الناشطات البيئيات؟

أجد أن المرأة قريبة من الطبيعة ومن المساحة التي تربي فيها وتعيش وتكوّن المجتمع، النساء لديهن إحساس أعلى فهن قادرات على حماية الحياة لأنهن مصدرها، وهن منبع العطاء لمن حولهن، يربين ويعلمن، وسأتكلم هنا عن نساء القرى حيث تكون حياتهن أكثر ارتباطاً بالطبيعة لأنهن قريبات منها، وأنا أراهن يحملن مسؤوليات أكبر تجاه الأم الأولى التي هي الأرض التي نعيش عليها. بينما نساء المدن فمشغولات بالتطور الوظيفي والمسؤوليات، ولكنهن أيضاً فاعلات ومؤثرات في التعامل مع التحديات الراهنة، من خلال المؤتمرات العلمية التي تقام في المدن وتسعى لرفع الصوت في وجه التعديات على الطبيعة.

حدثينا عن عملك المقبل "واحة القصة" وعن اتباعك الاستدامة في تنفيذه؟

أتعاون في عملي مع المهندس اللبناني وائل الأعور الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية للهندسة، وقد شارك ممثلاُ دولة الإمارات، وأنا أعرفه منذ سنوات طويلة وأتبادل الأفكار معه، وهذا التعاون مهم جداً في تطوير الفنون وعلاقتها بالعلم، وقد قام به بالتعاون مع جامعة طوكيو، وقد رفعنا البحث حين وصل إليّ، من فكرة مبدعة إلى تطبيق واقعي، فقصدنا جامعة الملك عبدالله للتكنولوجيا والعلوم والتي تسمى "كاوست" وتقع جنوب جدة، حيث رحّب الباحثين فيها بالمشروع بسس اهتمامهم الكبير بالبيئة، ومنها الماء والتصحر وحماية المرجان في البحر الأحمر، فدعموني في المشروع وتبنوه، وكان تبادل معرفي رائع بين فنانة متحمسة وأساتذة وباحثين مخضرمين، اجتمعوا ليفكروا معاً كيف سنبني جدار المستقبل أو المدن المقبلة. برأيي إن الفنان والمهندس والباحثين يلعبون في ملعب واحد: مساحة فيها إبداع وتجارب وتطوير، لذا فإن الاحتكاك والتلاقي فيما بيننا أساسي لتحسين مجتمعنا. الفكرة بدأت من مهندس، ووصلت إلى فنانة، واليوم تخوض نقاشات مع باحثين لكي نصل إلى بلورة الرؤية، وما زلنا في طور العمل على أمل أن ينتهي المشروع خلال عام 2026.

تم تكليفي بعمل "واحة القصة" من الهيئة العليا في العلا، وطلبوا مني بناء عمل في الطبيعة وأعطوني مساحة كبيرة هي عبارة عن واد كامل في وادي الفن، وبما أني عاشقة للمكان ولقصته وناسه وطبيعته وآثاره وقصة الإنسانية التي وجدت فيه، لم أرغب أن أُدخل الإسمنت إليه فأخرّب روحه الحرة، ولليوم نبني بمكونات صديقة للبيئة مع تصرفات جدّ مدروسة، تبدأ بتقليص عدد رحلاتنا بالطائرة، إلى استخدام المكيفات وغيرها من التصرفات اليومية البسيطة التي تؤثر سلباً على البيئة.

نفذت مشروعاً آخر في العلا سنة 2020، وكانت أول تجربة عمل فني في مساحة عامة بالنسبة لي، حينها نظرت إلى الجبال وجمالها، وقلت إنه من المستحيل أن أقدّم مادة توازيها جمالاُ، فقدمت عملاً مخفياً وغير مرئي.. الحوار كان حول التصحر واختفاء المياه، حيث كانت البحيرات تملاً المكان في الماضي القريب، فتعكس السماء خلال الليل ويمكن رؤية النجوم واضحة على وجه الماء وكأنها مرآة شفافة، ولكن معظمها اختفى اليوم بسبب نقص الأمطار، لذا حاولت أن أعيد هذا المشهد بأسلوبي الفني والإبداعي، للتذكير بالخسائر التي يسببها لنا نقص الوعي بمخاطر تغيّر المناخ.

نحن في السعودية ليس لدينا غابات، أو ثروات طبيعية كبيرة، لذا تحظى المبادرة الخضراء بالدعم الكبير، وتقوم جامعة كاوست، بدعم المبدعين والمصممين والفنانين لكي يفكروا بأسلوب مختلف فيقدموا أعمالاً فنية تراعي البيئة، وتساهم في نشر الوعي حول أهمية الحفاظ على الثروات الطبيعية.

 

ركزت مشاريعك في السنوات الفائتة على المرأة ودورها في المجتمع، فهل سيكون تركيزك في السنوات المقبلة على الأرض؟

أتبع إحساسي في العمل الفني، فأنا أطرح التجارب الحياتية التي أعيشها وتؤثر بي، أنا امرأة تتبع مجتمعاً وتعيش في كوكب هو الأرض، لذا حين أسافر إلى اليابان وأرى تأثير التغيّر المناخي عليها، سأتساءل عن سبب حصول ذلك وسأود معالجة ما حركني من خلال فني، ومن المفروض على كل فنان أن يملك هذا الحس العالي الذي يولّد الحشرية لصنع فن مختلف.

المرأة هي قضيتي الأولى وطالما أنا متأثرة بجسدي وفكري والتغيرات الحاصلة حولي، سأظل أطرح فناً حولها، أنا أعتبر أن دعم المجتمعات الصغيرة مهم جداً، وأحاول قدر الإمكان أن لا تأتي المواد التي أستخدمها في أعمالي من المصانع الكبيرة، بل يمكن أن تكون آتية من حرفيين ومن نساء عاملات يستخدمن مواداً طبيعية صديقة للبيئة. الفكرة هي أن نقرر أن نكون واعين لتصرفاتنا اليومية والأساسية، فنكون متواضعين في توجهاتنا لبدء معالجة مشاكلنا البيئية الكبرى.
مثّلت المملكة في بينالي البندقية، حدثينا عن هذه التجربة المهمة، كيف رصدت صورة الغرب عن الفن السعودي؟

المشاركة كانت مهمة جداً فالوصول إلى بينالي البندقية صعب بالنسبة لأي فنان، فهو بينالي قديم ويمثل الدول من خلال فنانيها، بالتالي من الصعب جداً تمثيل الذات مع البلد الذي ننتمي إليه، فالفنان يتخلى قليلاً عن صوته الخاص، ليعكس صوت وطنه ومجتمعه، وهذا أمر صعب عليّ لأن أعمالي تتحدث بنبرتي الخاصة، ولكني سعدت كثيراً بالتواصل مع مجموعة من الفنانين المخضرمين من مختلف دول العالم. عنوان العمل كان: تحركت الرمال فنطق الصمت، ورمز إلى نقطة تحوّل، وأنا معطم أعمالي تركز على التحول: في المجتمع، البيئة، دور المرأة.. فيها معاني الاختفاء والظهور، ومنذ بداياتي حتى اليوم أتبع خط البحث هذا في تجلياتي وتطبيقاتي الفنية.

كيف ترصدين مدى تفاعل الجمهور مع أعمالك ومدى تأثيرها عليه؟

بالنسبة لي فكرة العمل الفني تتجلى في جماله وجذبه لعين الناظر، وتوليد إحساس جديد لديه، فيطرح سؤالاً حوله، ويحرّك الفضول والأحاسيس ويحدث التأثير. حالياً مستمرة في أعمالي التي تعطيني كل الشغف للعمل والبحث، ولديّ مشاريع قادمة في اليابان والصين والسعودية.

اقرئي المزيد: ياسمين باقر: التريث قليلاً سيسمح لنا برؤية الطبيعة حولنا وتقديرها والحفاظ عليها

 

 

 
شارك