
كريم مسعود: أنا حكواتي أعشق الفن حوّلت منزلي إلى معرض دائم واستقبل عشّاق الجمال من كل العالم

زيارة منزل القيّم وجامع اللوحات الشاب كريم مسعود في حيّ هادئ في منطقة الأشرفية، لاكتشاف عالمه كانت مغامرة جميلة تستحق المشاركة، كانت رحلة لا تنسى إلى أركان هادئة ولطيفة ابتكرها الشاب المحب للفنون بكلّ حب وصدق وطاقة إيجابية تصل سريعاً إلى أعماق من يزوره، ليكتشف أنه حوّل منزله إلى ما يشبه المتحف، فكل ركن يحكي قصة ويخاطب القلب مباشرة، ويأخذ الناظر إلى عالم الفنان الذي أبدع لوحة خلّدها وسيخلدها الزمن.
يستقبلنا كريم عند الباب بترحيب حار ورائحة البخور القوية تعبق في المكان، وبعد أن يحضر لنا العصير الطازج اللذيذ، تأتي قططه الأربعة لترحب بنا في عالمها، فتشاركنا الجلسة وكأنها تعي جيداً مدى قيمة المكان الذي تسكنه، ويبدأ حديث صادق ومن القلب عن قصة بيت حوّله مالكه إلى غاليري، يستقبل الذواقة للفن من كل بقاع العالم.
السؤال البديهي الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف تمكّن كريم من تحويل منزله إلى معرض فني، وهنا تبدأ الحكاية، فيقول "بعد انتشار كوفيد وعودتي من الخليج إلى بيروت وانقطاعي عن عملي الثابت، عشت فترة صعبة وغريبة ولم أكن أعرف ماذا أريد، ولأني محب للفن منذ صغري وجامع للوحات الفنية، فقد حصل الأمر بشكل بديهي، وبدأت الفكرة بالانتشار بين أصدقائي الذين كانوا يقصدونني لقضاء الوقت معي، ومنهم انتقل الخبر إلى رفاقهم ومعارفهم، وازدادت أصداء المنزل، الذي صممت كل ركن فيه بعناية خاصة".
يضيف كريم "بعد تلك الفترة حصل أيضاً انفجار بيروت وكان الأمر بمثابة الخروج من الرماد، فالحياة تفاجؤنا كثيراً بالصدف والأحداث القاسية التي ترميها في طريقنا، وتجرّبنا بها لكي نخرج بأفضل وأقوى ما عندنا، وبالفعل استطعت الاستمرار والصمود وتطوير فكرة المعرض الفني الذي أسسته وعملت بجهد لكي يعرف النجاح والانتشار".
ويستطرد "مع الوقت بدأت الفكرة تتوضح لأصحاب المعارض والقيمين الفنيين ومحبي الفنون، وتلقى الاستحسان، فأنا أستقبل الناس بحسب وقتهم الخاص ولا ألزمهم بأوقات زيارة محددة، هنا يجلسون معي لشرب القهوة والتحدث، ثم يبدأون بالتعرف على اللوحات مع شرح كامل مني، فيبدأ حوار حقيقي وصادق وأصيل، يأخذنا إلى أماكن فكرية وثقافية بعيدة، حيث يختبرون تجربة جديدة ودافئة، بعيداً عن أجواء المعرض الذي يمكن أن يزورونها لنصف ساعة ويغادرون سريعاً في حال لم تعجبهم الأجواء".
أدرك كريم ومثله كثر من صنّاع الفن والعاملين في هذا المجال أن فكرة Home Gallery مطلوبة في وقتنا الحالي، يقول "الاستثمار في إنشاء وتأسيس معرض يحتاج إلى الكثير من الأموال والجهد مع طاقم من الموظفين، بينما في حالتي فأنا أعيش في بيتي الذي أعشقه، ويتسنى لي مشاركة شغفي الكبير بكل زاوية من زواياه، مع عشاق الفن والباحثين عن اللوحات المميزة، فأنا أترك الزبون على راحته، أسمح له بأن يسرح بأفكاره مع اللوحة، ربما يكون عندي زبون آخر، فأجالسه بينما يأخذ الأول حريته في التحرك والتصرف، وهذا الأمر لا نراه في المعارض الفنية الكبيرة، حيث يمكن للموظف أن يلاحق الزبون طوال الوقت، أو يمكن للازدحام وكثرة الناس أن تنفر البعض وتجعلهم يغادرون من دون فرصة حقيقية للتواصل مع اللوحات الموجودة".
يكمل "تضيف فكرة البيت الكثير من الحميمية إلى المكان، مع قططي التي ترحب بالزوار كما رحبت بكم تماماً، والمناقيش الصباحية التي نتناولها معاً لكي نكسر الجفاء بعض الشيء، والقهوة اللذيذة لتكمل الجلسة، فنكتشف الكثير عن بعضنا وأتمكن من فهم من يقصدني ومعرفة ذوقه ومساعدته في التوجه نحو اللوحة التي تناسبه".
عن كيفية حصوله على اللوحات يقول كريم "أنا أتصيدها وهو جزء أعشقه من عملي، فأقصد المزادات، إذ حين يموت بعض الفنانين أو جامعي الفنون الكبار في السن، يقوم أولادهم ببيع لوحاتهم، وتكون بمثابة الكنوز لمحبي الفن، كما أتسوق أونلاين ولكني أفضل البحث الحقيقي عن اللوحة.. هذه الحشرية أو فلنقل الشغف بإيجاد الكنوز الخفية بدأ من طفولتي فقد كنت أحب القصص الغريبة، فبدل رسم بيت وشجرة، كنت أرسم نبتة بالمقلوب وعليها عصافير باكية، وبدل الرغبة بالسفر إلى لندن في أول رحلة خارج البلد أردت القيام بها، أردت زيارة سريلانكا، فأنا عاشق للثقافات وأنماط حياة الشعوب واكتشاف تفاصيل عن حضارتها وتاريخها، وهكذا تعزز حبي للفن والتصميم والديكور، وبدأت بشراء اللوحات وجمعها، ساعدني عملي في السعودية مع الأثرياء والمقتدرين حيث كنت أصمم مناسبات مهمة وبيوت ومنازل فاخرة، في معرفة الكثير عن الفن الراقي وسبل الوصول إلى اللوحات الثمينة، وكانت هذه التجارب هي الأساس الذي بنيت عليه عملي في لبنان.. واكتشفت اليوم أني لم أحب أبداً الدوام الثابت والعمل المكتبي، وأن ما بدأ كصدفة حين اضطررت لبيع بعض اللوحات بعد تركي لعملي وعودتي إلى لبنان، كانت الخطوة الأولى في طريق اكتشافي الكامل لذاتي ولحقيقتي، فاليوم أعيش بسعادة في بيت صغير صار معرضاً فنياً، وأملك مزرعة صغيرة أقصدها حين أملّ من بيروت، مع تحقيقي للاكتفاء المادي وسعيي الدائم لتطوير عملي الذي هو شغفي الأكبر في الحياة".
يكمل كريم "عالم الفن واسع جداً وجميل، لا بأس أن نجهل عنه الكثير من التفاصيل فأنا لم أكن أعرف الفرق بين الزيت والأكريليك وكنت أخجل من قول ذلك علناً وكثر مثلي، ولكني أحب مشاركة كل ما أكتسبه وبشكل يومي مع الجمهور، وبرأيي هنا يكمن دوري فأكون الوسيط بين الفنان الذي له عالمه الخاص وطقوسه التي يحتاجها لكي يرسم ويبدع، وبين الجمهور الذي يحب الفن ولكنه لا يملك الوقت لتعميق معرفته به بسبب انشغالاته الحياتية، وجدت في هذا العالم الحرية التي أحتاجها، وبات جهدي الذي أقوم به يعود فقط لي وليس لصاحب العمل، كما أني أساعد الفنانين ولا سيما الجدد منهم وأسلط الضوء على أعمالهم وأسمح لها بالوصول لأعداد أكبر من الناس".
وعن مجموعته الجديدة لهذا الموسم يقول "في الحقيقة أنا أغيّر اللوحات كل ستة أشهر، بعضها يباع ولوحات أخرى أبقيها لنفسي أو أهديها، فأنا كشخص لا أحب الروتين وأعشق التغيير كما أن الناس ترغب برؤية كل ما هو جديد، واليوم صرت حين أحضّر مجموعة أتبع حدسي وذوقي وعاطفتي الخاصة، فأختار ما يعجبني وما سيتناغم بشكل جذاب، وحالياً التركيز على الطبيعة والورود، لذا حرصت على توليف مجموعة تعكس هذا الاتجاه فكان العنوان The secret Garden".
أما عن كيفية اختياره للوحات فيكشف "أحياناً يجذبني شكل اللوحة ومضمونها الفني وحجمها وفي أوقات أخرى حين أسمع قصتها وظروف رسمها أكتشف أبعاداً جديدة فيها تشدني إليها، فهناك عدة طبقات للعمل الفني، الأولى مرئية والأخرى مخفية تحتاج إلى البحث والتدقيق".
ويشجع كريم الجمهور على اكتشاف الفن "صحيح أن بعض الفنانين لا يحبون الظهور وهو أمر خاص بهم لأن طبعهم وقدرتهم على العطاء لا تتجلى إلا في الابتعاد والعزلة أحياناً، ولكن حين يكشفون إلهامهم وأعمالهم تكون النتيجة مبهرة، وتحتاج إلى بعض الدعم من القيم الفني أو جامعي اللوحات مثلي لكي يصلوهم بشكل مناسب بالجمهور العريض، ومن هنا أشجع الجيل الجديد على التعرف أكثر على الفنون بأنواعها، وإعطاء الفرصة للعقل والقلب أن يفهم معاني وقصص مختلف اللوحات والفنانين الذين يقدمونها، ففي هذا الأمر ثراء ثقافي وروحي بالدرجة الأولى، ولعله يجذب الثراء المادي مستقبلاً، فأي لوحة نشتريها اليوم يمكن لسعرها أن يتضاعف كثيراً في المستقبل".
يختم كريم حديثه بالقول "أعيش حالة خاصة جداً في عالم جميل بنيته لنفسي ولمن يشاركني ولو جزءاً بسيطاً من شغفي بالفن والتصميم والجمال والتفرد في هذا العالم الذي يتحوّل إلى المادية بشكل كبير، أنتقي اللوحات التي أقع في غرامها وأرغب أن أبيعها لشخص يعيش نفس إحساسي حين يراها، وأعتقد أني راوي قصص من الطراز الرفيع لأن أول ما يشدني إلى عمل ما هو روحه وحكايته وتفاصيله الدقيقة، صحيح أن عملي له حيّز مادي استثماري ولكن القلب يعمل قبل العقل بكلّ تأكيد.. أعشق الشارع اللبناني والجبل والطبيعة وقريتي مرجعيون وأقدّر فناني هذا البلد من فيروز إلى محمود صفا، وأتمنى أن يستمر إبداعهم بالوصول والتجلي والتأثير من خلالي ولو بشكل بسيط".
Favorite artpiece
العفريت هو الاسم الذي أطلقه كريم على لوحته المفضلة، وهي للفنان السوري سبهان آدم، ومع العلم أنها فتاة كما علم لاحقاً ولكنه حين رآها للمرة الأولى وقبل سنوات طويلة، لم يستطع أن يشيح بنظره عنها، وقرر أن يجمع المال ليشتريها. يقول "لم يفهم أهلي لماذا يرغب شاب في مقتبل حياته شراء لوحة وليس سيارة مثلاً أو السفر إلى بلد للسياحة، ولكن في داخلي عرفت أني أريد أن تكون هذه اللوحة في منزلي، ففيها ما لامسني بقوة وحرك أحاسيسي، وقد حصلت عليها واحتفظت بها في بيتي وفي مكان واضح جداً كما يظهر لك، وألاحظ أن معظم من يزورني يتفاجأ بها ويدقق النظر إليها، وأعتقد أنها اللوحة الوحيدة من بين كل مجموعاتي التي لا يمكنني بيعها أو التنازل عنها مهما كان الإغراء المادي كبيراً، فأنا أعتبرها وجه الحظ، الذي فتح لي أبواب هذا المجال، لذا سترافقني بعد لسنوات كثيرة مقبلة".
اقرئي المزيد: ماريلين نعمان: روح صادقة تتألق غناءً وتمثيلاً