خلود حسني: أؤمن بأنني كامرأة عربية تحررت من اللجام
هل أنتِ حرة؟ الإجابة البديهية على هذا السؤال هي نعم، فأنتِ لست في السجن ولا أغلال تكبّل يديكِ، أنتِ قادرة على اختيار مكان سكنكِ، اختصاصكِ الجامعي، صداقاتكِ، مواقفكِ، هواياتكِ، حتى إطلالاتكِ ومظهركِ الخارجي.
ولكن إذا تعمّقنا قليلاً في حياتنا، سنجد حتماً مواقف مررنا بها لم نكن في خلالها أحراراً بالمعنى الحقيقي للكلمة، أحسسنا أنّ قيوداً خفية توقفنا، ربما هي قيود الأهل أو المجتمع أو الرجل الشريك أو العادات والتقاليد، أو حتى قيود الذات التي لم تتخلص بعد من صدمات ومواقف عاشتها وتركت فيها الحذر والخشية من تبعات العيش بحرية حقيقية.
ولكن حين تختارين الفن ليكون طريقكِ، فأنتِ تعبرين من خلاله إلى حريتكِ بمعناها الأوسع، فالفن لا يمكن مصادرته ومنعه ومعاقبته، فهو عابر للأزمنة والأمكنة، يسمح لكِ أن تعبّري عن أكثر الأفكار جرأةً وقوةً وعمقاً، والجرأة هنا ليست بمعناها السلبي، بل تعني تجريد الروح من كل الطبقات التي أعاقت انطلاقها ووضع اليد على الجراح التي خدشتها وتسببت لها بالأذى، لكي تتحرر وتسمح لمن حولها أن يصل أيضاً إلى جوهره.
ولأنّ محور العدد هو حريّة التعبير عن الذات، فقد اخترنا خمس فنّانات موهوبات ولامعات كلّ واحدة في مجالها، استطعن أن يعشن معاني الحرية من خلال أعمالهنّ الفنية المختلفة، ويوصلن رؤيتهنّ الخاصة إلى الجمهور.
أن تتعرض شابة لمشكلة صحية خطيرة تغيّر حياتها وطريقة تفكيرها ليس بالأمر السهل، ولكنه حصل مع الفنانة المصرية خلود حسني، التي واجهت الكثير من الآلام الجسدية والنفسية قبل أن تكتشف أنّ عليها الاعتماد على نفسها أولاً لتبدأ رحلة التشافي، وما ساعدها هو التعبير بالفن وتحديداً الرسم والباليه والكتابة، لتدرك بعدها أنّه لا يكفي أن تعبّر فقط عما تحس به، بل يجب أن تساعد الشابات من بنات جيلها في تخطّي المشاكل التي يواجهنها ومنها التمييز والعنف والاستغلال بمختلف أنواعه، من خلال الفن. فكيف تقوم بذلك؟ وكيف وجدت حريتها الفنية في مجتمع لا يزال محكوم بالكثير من العادات والتقاليد، لتغوص في مواضيع جريئة وصادمة بكل ثقة، بهدف واضح نصب عينيها وهو تقديم المساعدة والدعم ورفع الوعي بكل ما يعيق تقدّم النساء وتمكينهنّ؟
قصّة مؤثرة وصعبة كانت السبب المباشر الذي دفعكِ نحو مجال الفن، هل يمكن أن تطلعينا عليها؟
قصة مرضي بدأت في الطفولة وتحديداً بعمر الـ12 سنة. عانيت من التهابات في الأمعاء ولكنني كنت قادرة على السيطرة عليها من خلال الطعام الصحي والرياضة، فكنت أمارس السباحة بشكل دائم. بعد ذلك بسنوات وأثناء دراستي الجامعية زادت حدة الالتهابات ووصلت إلى الجهاز الهضمي، وكنت آخذ عدداً كبيراً من الأدوية التي أثّرت سلباً على جسمي فخسرت الكثير من الوزن، وبدأت أعاني من نوبات هلع فاضطررت للقيام بتخطيط للمخ وحين تبيّن أنّ هذه الأعراض ليست صحية، لجأت إلى العلاج النفسي وبدأت باكتشاف معاني القوة وكيف يمكننا أن نغوص في مكامن ذاتنا لنسيطر على الأعراض الصحية والنفسية التي تصيبنا، وحينها قررت التوقف عن كل الأدوية وتحمّل الأوجاع في أمعائي، لحين التوصّل إلى علاج آخر يناسب وضعي. كانت خطوتي الأولى أن أركز على دراستي فتفوقت وتخرجت الأولى على دفعتي، ووجهت كل اهتمامي نحو الشغف الأساسي الذي رافقني طوال هذا الوقت وهو الفن.
كيف عرفتِ أنّ الفن هو العلاج لوضعكِ النفسي وأنّه سيترك أيضاً أثراً إيجابياً على وضعكِ الصحي؟
بعد تخرجي بشهرين، بدأت بتجهيز أول معرض لي وذلك كي أشغل تفكيري بأمر أحبه، وخلال تلك الفترة قررت أن أتعمق في العلاج بالفن، خاصةً أنني في إحدى المرات حين انتهيت من لوحة لي، أحسست براحة نفسية رهيبة، وكأنني فرّغت كل غضبي وآلامي وأفكاري السلبية على الورقة، ولخصت فترة زمنية طويلة مررت بها، وبعدها شعرت وكأنني فعلاً شفيت! من هنا بدأت بالقراءة عن هذه العلاجات، وأردت لمعرضي الأول أن يكون بداية طريق علاجي الحقيقي، ورسالتي من خلاله كانت: كل شخص له منظور مختلف لحياته، وعلينا تقبّلها وعدم السماح لأنفسنا بالحكم عليه سلباً لأنّه مختلف عنّا. فما زلت أتذكر كيف كنت أواجه باللوم أو الشفقة حين أفقد الوعي نتيجةً لظروف مرضي، وكأنني صرت معيوبة لأنني مريضة ولأنني على وجه الخصوص امرأة، وكأنّه لا يحق لنا أن نمرض ونكون ضعيفات، وهذا الضعف يظهر على الملأ لأننا ببساطة لا نرغب أن نظل حبيسات الغرفة أو السرير.
استطعتِ من خلال فنكِ التعبير عن أحاسيسكِ وأفكاركِ وعن قضايا مجتمعية وحياتية وإنسانية مختلفة تعيشينها وتخص النساء. فما هي أهم القضايا التي تحاولين نشر التوعية بها؟
صحيح، فأنا لجأت إلى فني لمقاومة كل أشكال التمييز وبعدها العنف بمختلف أشكاله الذي تتعرض له المرأة، وبالتأكيد بدأت بما واجهته خلال رحلتي في التشافي، ولكنني اكتشفت أنني أعكس حالات نساء كثر حولي، فكتم المشاعر ومقاومة الاعتراف بالضعف وبالحاجة للمساعدة سيسبب لنا مشاكل كثيرة. حينها قررت أن أظل بمفردي لفترة طويلة اعتبرتها بمثابة الهدنة الضرورية لراحتي، لكي أسترجع ثقتي بالآخر ورغبتي بالتواصل معه. كنت أفرّغ كل مشاعري من خلال الرسم فهو كان مساحة الراحة الخاصة بي، وذلك حتى قبل شهور قليلة، حتى شعرت أنني مستعدة للظهور مرتاحة في الحديث عما مررت به. ساعدتني في تلك الفترة قصص شابات ملهمات مررن بظروف أسوء وتمكنّ من الخروج منها أقوى، لذا ظللت أحاول وعرفت كيف أعبّر عما يعتريني من خلال الفن، فما المانع أن نناقش معاناتنا من خلال معرض؟ ليس عيباً أو أمراً ناقصاً، بل العكس، فأنا أساعد نفسي وأخدم غيري من الشابات، كما أنني ألفت أنظار المجتمع نحو قضايا كبيرة تخصنا وتزعجنا ويمكن أن تخرّب حياتنا، منها المعاناة النفسية والتحرش والتمييز وغيرها.
أخبرينا عن الحالة التي تعيشينها حين تبتكرين عملاً فنياً جديداً؟
أبدأ غالباً بفكرة معينة ولكن أثناء التنفيذ تتغير وأرى نتيجة مختلفة عما تخيلته، فمشاعري تتغير بشكل سريع وهي تنعكس على العمل الذي أرسمه، وأنا أترك نفسي على سجيّتها، مع تركيزي الدائم على القضايا التي تخص المرأة، لتكون النتيجة لوحة تخدم سياق المعرض الذي أخطط له.
ما الذي تعنيه لكِ الحرية؟ هل وصلتِ إلى الشعور التام فيها كونكِ شابة مصرية أو فلنقل عربية لا تزال توضع عليها قيود ومعايير مزدوجة ومختلفة عن الرجال؟
لم أشعر بأي تمييز بين الرجل والمرأة في مدرستي وجامعتي ومحيطي الأسري، ولكن حين دخلت مجال الفن أحسست به. أما بالنسبة للحرية، فتمتعت بها بكل تأكيد، ولم يتم أبداً وضع أي قيود على قراراتي أو أفكاري الفنية. القيود أحياناً تطال أعمالي وقد تعرضت خلال العام الفائت لمشكلة حيث مُنعت من عرض أعمالي في أحد الأماكن لأنّ مديرة المكان رفضت محتواها، وهي سيدة للأسف، وقد رفضت أفكار شابة مثلها تحاول التعبير عن مشكلة تعاني منها النساء وهي العنف الجنسي. من هنا أقول، أنا حرّة حين أعرف حدود نفسي، وليس لأنّ المجتمع وضع لي هذه الحدود، فأنا في حال كنت محجّبة يحق لي دخول أي مكان أريده، وليس من حق أصحاب المكان منعي من الدخول لأنني لا أناسب معاييرهم، إنّه خياري أنا أن أرغب أو لا أرغب بالدخول وهم عليهم احترامه. وبالتالي، ليس من حق أحد أن يقيد حريّتي، بل على كل شخص أن يعرف حدوده، ويحترمها انطلاقاً من احترامه لنفسه. أؤمن بأنني كامرأة عربية تحررت فعلاً من اللجام الذي وُضع لي لسنوات كثيرة فائتة، ولن يتمكن أحد من سلبي ما حاربت كثيراً للحصول عليه.
متى تحررتِ من كل المعتقدات والأفكار التي تكبّل الشابات في عصرنا الحالي؟ سواء حين اخترتِ مظهركِ أو محتواكِ الفني المختلف؟
لديّ حدودي بالتأكيد كأي شابة عربية، ولكنني وجدت أنّ هناك جزء جريء داخلي، بدأ بالظهور حين صرت أرسم المرأة بكل حالاتها ومشاكلها، ومع استمراري بالرسم بدأت أشعر أنني فتاة جريئة وقوية، لست ضعيفة أو خجولة كوني امرأة، بل أنا بكل ما مررت به، فخورة بذاتي وبقدراتي. وحتى في طريقة اختياري لمظهري ودراستي وتصرفاتي، امتلكت كامل الحرية والثقة من أهلي، فهم حين قاموا بتربيتي، أدركوا أنني بتّ مستعدة لمواجهة هذا العالم، ولاتخاذ القرارات التي تناسبني وترضيني.
هل وصلتِ إلى مرحلة التصالح مع الذات؟
اليوم أستطيع أن أقول أنني متصالحة مع ذاتي، لم أعد أشهر بالخجل أثناء التحدث عن مرضي ومعاناتي النفسية ولم أعد في موقف ضُعف، لأنني فعلياً تعافيت وقد أخذني الكثير من الوقت والجهد والوجع لكي أصل إلى هذا اليوم، وبتّ قادرة أن أقول لا لما أو لمن يزعجني أو يهاجمني.
حدّثينا عن العلاج بالفن، كيف يمكن أن يساعد المرأة في تحرير أفكارها والتخلّص من مشاعرها السلبية؟
بدايةً أشير إلى أنّ الفن لا يعالج دائماً المشكلة أو يجد الحل لها، ولكنه يوصل القصة التي تسببت بالمعاناة بشكل مبسّط ويعطيكِ إحساساً وكأنه مرآتكِ، كأنّ ذاتكِ هي التي رسمت وعبّرت بهذا الشكل، لذا ترتاحين نفسياً، ومن هنا يمكن للجوء إلى الفن أو أي هواية أخرى أن يغنيكِ عن الأدوية المضادة للاكتئاب، فيصير هذا النشاط هو العلاج. برأيي المعاناة النفسية أصعب بكثير من الوجع الجسدي، فالأول يمكنه أن يوقف حياتكِ فعلياً ويدفعكِ نحو الانهيار، أما الثاني فله مسكّنات وأدوية معروفة، وبالتالي من الضروري جداً أن نعالج أوجاعنا النفسية، لذا خذي وقتكِ في الحزن كما فعلت أنا، وتخلّصي من التراكمات والصدمات، والجئي بعدها إلى أي هواية تحبين القيام بها، لكي ترجعي أقوى.
اليوم سلاحي في الحياة هو فنّي، فقد أنقذني من معاناتي ولن أبخل في مساعدة الشابات حولي، كي يكتشفن شغفهنّ، سواء كان الغناء أو العزف أو الرسم أو الرقص، فالمهم هو أن يتمكنّ من تفريغ ما يعتريهنّ من أحاسيس من خلال الفن، ويتعالجن من أي داء يعانين منه.
كيف ترين تفاعل الجمهور مع الفن الذي تقدمينه؟
تفاعل الجمهور يدهشني في كل مرة، ويشعرني أنني قمت بأمر مفيد، ولديّ المزيد لكي أقدمه. أحب نظرات الإعجاب في عيونهم، فهي تعني أنني أتطور وأتحسن، وأعبّر عن قضية كبيرة أؤمن بها وأنوي إيصالها لأكبر قدر ممكن من الناس. أحس بالفخر بنفسي وبأنني حيّة ومهمة ومؤثّرة، وكبيرة جداً بعيون ذاتي بالدرجة الأولى.
ما هي مشاريعكِ المقبلة؟ سواء في الرسم أو الباليه أو أي مجال آخر ترغبين بخوضه؟
اهتماماتي أكبر بكثير من الرسم، فأنا أكتب وسأنهي قريباً روايتي الأولى، كما أنني سأطلق علامة مجوهرات في الشهور المقبلة، مخصصة لدعم قضايا المرأة، وأبرزها تعزيز الثقة بالنفس. أما في مجال الفن، فهدفي هو أن يصل فني لأنّه حقيقي وقادر على أن يلامس الناس بكل فئاتهم، وأنا أشاركه عبر صفحتي على إنستغرام: artworkbykholoud@، كما أريد في الفترة المقبلة أن أعمل على إدخال الـStreet Art بشكل أوسع إلى بلدي مصر، ليكون الفن بمتناول كل فئات المجتمع.
اقرئي المزيد: سجى كيلاني: لحظة أدركتُ أنّ آراء الناس لا تعنيني هي اللحظة التي حرّرت عقلي وأفكاري