مقابلات

نور طعّان: أثبت في عملي على الليفة أنه يمكننا العيش باستخدام مادة طبيعية واحدة

التمتع بحس المسؤولية الأخلاقية هو أساس كل المهن ولأن الفنون من أرقى وأسمى ما يقدمه الإنسان الذي يتميز بموهبته وقدرته الابداعية في مجتمعه، فإنه يكون مسؤولاً أكثر من غيره عن اعتماد خيارات واعية وصحيحة، قد يكون أهمها في وقتنا الحالي هو الحفاظ على الطبيعة وحماية البيئة في الوسائط والمواد التي يستخدمها. نعرفك على 3 فنانات ومصممات مبدعات حملن قضايا البيئة والاستدامة للاستفادة من الموارد الطبيعية وتقديمها في أعمالهن، فتميزن عربياً وعالمياً وأثبتن أنّ الفن قادر على التكيّف ليكون حليفا وليس عدواً لهذه الأرض.

إن كان هناك أحد قادر على أن يغيّر كل طريقة تفكيرك حول الطبيعة والأرض والبيئة والاستدامة وعلاقتها بصحة الإنسان وعافيته ومستقبله، فهي المصممة والفنانة الشابة نور طعّان، فهي كتلة من الشغف والذكاء والفهم العميق لمختلف نواحي حياتنا الحالية والمعاصرة، امرأة بكامل نضوجها، نشأت ضمن ثقافات متعددة ولكنها لاحقاً أدركت أهمية جذورها اللبنانية والعربية وتشبثت بها لتحوّل نبتة الليفة التي تزهر في بلدها، إلى منتجات مختلفة ومتعددة الاستخدام، تدمجها في الأكسسوارات المنزلية كالإضاءة وفي الملابس والطعام، لتثبت أنه يمكننا العيش مع منتج واحد فقط. لذا، دعونا نغوص في رحلة نور تان (تحذير: بعد القراءة، ستصبح بالتأكيد من محبي لوفا).

قلت في لقاء سابق أنك مررت بما يشبه أزمة هوية أو إنتماء، هل بت اليوم قادرة على معرفة ذاتك وهويتك الحقيقية؟

عشت خارج لبنان لوقت طويل من حياتي، كما أن جدتي ألمانية، لذا شعرت دائماً أني لست عربية بشكل كامل في العالم العربي، ولست أيضاً أجنبية في الدول الغربية التي عشت فيها، ولكني في ممارساتي الفنية والتصميمية ولا سيما مع الليفة وهي بصمتي في هذا العالم، كنت على الدوام عربية لأنّ هذه النبتة موجودة في بلدي وفي الكثير من البلدان العربية. لطالما شعرت أثناء غربتي أني أريد العودة إلى بلدي، انتابني الحنين دائماً إليه وإلى تفاصيل الحياة فيه، وكان الموجودين فيه يقولون لي إن وجودي في الخارج هو الأفضل لي ولصالحي لبناء مهنة أقوى. إلا أني كنت أعيش صراعاً داخلياً لأني أردت دائماً التحدث باللغة العربية والتعبير بصدق عن جذوري وانتمائي، وهنا جاء تصالحي مع هويتي وخاصة بعد أن اكتشفت الليفة وصارت في صلب عملي التصميمي، كنت أقصد المزارعين للحصول على نوعيات عالية الجودة منها، ومعهم لم يكن بإمكاني التحدث بالإنكليزية، بل كان يجب أن أتواصل بأسلوبهم، وأفهم جهدهم، وآخذ إنتاجهم لألقي الضوء عليه وأستفيد منه وبالتالي تعود المنفعة عليهم أيضاً، من هنا ازداد تواصلي مع أرضي من خلال فني، وباتت اللغة العربية وسيلتي للتعبير عن نفسي وإيصال أفكاري بالشكل الذي يحاكي ثقافتي وتراثي العربي الكبير والمهم.

متى عرفت أنك تريدين التعبير عن نفسك من خلال التصميم والفن، ولماذا انتقلت نحو الفن المستدام؟

درست الماجستير في الولايات المتحدة اختصاص التصميم الصناعي، وتمحورت دراستي حول صياغة رموز تشفيرية للآلات، وكان المشروع يتطلب التواجد في طوكيو لتعلّم التشفير ولندن لإكتساب هوية للمنتج الذي سأخترعه ونيويورك لأنفّذ المشروع كاملاً، وكانت التجربة غامرة ومليئة بالمعرفة، فتحت آفاقاً كثيرة أمامي وشكّلت أفكاري، ولكن بعد ذلك بفترة قصيرة ضرب كوفيد العالم، وتغيّرت الكثير من اتجاهاتي الفنية، فبعد أن كنت راغبة باختراع حلق للناس الذين يواجهون صعوبات سمعية، يكون شكله جميلاً ومميزاً بحيث لا ينفر منه الشباب أو حتى الأكبر سناً، بات تركيزي منصّباً نحو العودة إلى الطبيعة والجذور، من خلال مواد تأتي من الأرض، فكانت الليفة هي اختياري، وتبلورت فكرة Life of Loofah، والتي تتمحور حول استخدام الحواس الخمس للتعامل مع الليفة، إذ يمكن التمتع بشكلها وتذوقها وشمّها ولمسها والاستماع للأصوات التي تصدر عنها حين نحرّكها، وقد ساعدني هذا المشروع في تعميق أبحاثي حول كل ما هو طبيعي ومفيد لي ولجسمي ولعافيتي. بالمناسبة أنا لطالما كنت مؤمنة بأن في الطبيعة علاج لكلّ أمراضنا، ومنذ صغري أرفض الدواء ولا أعتبر أن كلام الأطباء منزل ويجب تنفيذه دون اعتراض، لإقتناعي بأن اللجوء للمشروبات الصحية والأعشاب والعلاجات التقليدية يمكن أن يشفي من بعض المشاكل الصحية من دون أخذ الدواء المصنّع، لذا كان مشروعي بمثابة استكمال لنمط حياة عشته واقتنعت به لوقت طويل، وأردته أن يصل إلى الجمهور الذي يحصل على منتجاتي، حيث أن من يشتري لمبة أو أكسسوار إضاءة يحمل توقيعي، ينال معه بزرتين وكتيّب يعلمه كيفية زراعتهما، للحصول على نبتة، والتي يمكن طبخها وتحضير حساء لذيذ منها، وقد سافرت إلى النيبال تحديداً لهذه الغاية، وكانت نكهتها شهية وقريبة من طعم الكوسا!

أردت أن أثبت من خلال بحثي أنه يمكن العيش باستخدام مادة طبيعية واحدة وهي في الحالة التي عملت عليها: الليفة، بحيث يمكن أن نستخدمها بغرض تنظيف الذات، وهو الأكثر شيوعاً في عالمنا العربي، يمكن أن نعمّر منها منزلاً وهو ما يحصل في الباراغواي، فهي تقي من دخول المياه في فصل الشتاء، ومن الشمس صيفاً، ونستطيع تناولها في مراحلها الأولى، وأنا أضفت إلى كل ذلك إمكانية تصميم أكسسوارات منزلية باستخدامها، بالإضافة إلى الملابس، ولاحقاً حين يصير عندي أطفال أفكر بتقديم مجموعات أزياء ومنتجات مناسبة للصغار باستخدامها. بالتالي فقد باتت رفيقتي الدائمة في الحياة ومشروعي المستمر الذي سيتطور معي ويزداد وصوله لجمهور أكبر.

التفكير المستدام يشبهني ويحاكي طريقة عيشي لحياتي، وكان من الطبيعي أن أفكر بعد كورونا والتباعد الاجتماعي الذي شهدناه، بالعودة إلى الجذور واللجوء إلى الطبيعة التي ارتاحت من ضغط البشر عليها في تلك الفترة، لذا أعتبر أن من واجبي أن أستمر بالبحث في كل طرق تطوير المواد المستدامة التي نجدها حولنا لتكون وسيلتنا لحماية الحياة على هذه الأرض التي أعطتنا وتعطينا الكثير، ومن الضروري أن نهتم بثرواتها ونحافظ عليها للأجيال القادمة.

مع انتشار الاستهلاك السريع كيف يمكن توجيه الجيل الجديد نحو المنتجات المستدامة؟

أعتقد أنّ المطلوب هو أن نتصل هاتفياً بالجدات، ونسألهم كيف كنتن تحكن ملابسكن، وتحضّرن الخبز، وتنظّفن الملابس المتسخة.. هذه التفاصيل البسيطة التي كانت جزءاً من الحياة اليومية للأجداد هي ما نحتاج أن نسترجعه، ولكننا للأسف في عصر الاستسهال، حيث نبحث عن كلّ ما هو سريع ولا يتطلب جهداً، فالتكنولوجيا جعلتنا نشعر أننا نتقدم ولكننا مع الأسف نتحول إلى شعوب استهلاكية، نتبع الإعلانات المدفوعة من دون أن نفكر بأبعاد المواد التي تسّوق لها. والأمر ينطبق على كلّ نواحي الحياة، حتى الحب بات استهلاكياً وسريعاً، لم نعد ننتظر رسالةغرام من الزوج، بل نريده أن يرد فوراً على مكالمتنا.. إن الإستدامة تعني الاستفادة من التكنولوجيا التي بين أيدينا مع الحفاظ على جزء كبير من عادات الأسلاف، فالقليل من الاثنين معاً سيوصلنا إلى الكمال في التصرف والعيش.

لماذا يؤخذ على هذه المنتجات ارتفاع الأسعار ما يساهم في إحجام الكثير من الناس عن شراءها؟

حين أعمل على منتجاتي فأنا أعطي من كلّ قلبي وطاقتي ووقتي وجهدي، وسأعطيك مثالاً حول إنتاج لمبة واحدة، فهو يأخذ مني حوالي 16 ساعة من العمل المتواصل أي يوماً كاملاً، لذا فإن هدفي ليس إنتاج كميات ضخمة مخصصة للتسوّق، بل كمية قليلة ترضي جامعي الفنون والتصاميم، لأن هناك فرقاً كبيراً بين التسوق وجمع الفنون، وأنا أتوجّه إلى الجامعين للقطع الفنية وتحديداً التي يتم صنعها يدوياً والتي تزداد قيمتها مع الزمن، كما أني أدعم العمل اليدوي والحرفيين كثيراً، والذين نشعر أنّ عملهم على وشك التوقف بسب قلة الدعم الذين يتلقونه، على الرغم من قيمة أعمالهم الكبيرة وفرادتها وقوة تأثيرها، فهي مميّزة بروح صانعها وقصته، وليس مثل المنتجات التي نجد منها آلافاً متشابهة تملأ الأسواق.

المشكلة الأكبر التي نواجهها نحن الفنانين والحرفيين معنا، أن التوجّه العام هو نحو كل شيء سريع، لا يأخذ جهداً في البحث، نفضّل أن نقلّب الصور عبر وسائل التواصل ونشتري بشكل سريع ما يروّج له على أنه صيحة سائدة، لذا فقد كثر منّا تقديره لكلّ ما هو حرفي ويدوي وفريد.

بالنسبة لي، أقدّم من كل تصميم 5 قطع فقط، بأسعار تناسب جامعي الفنون ومن يقدرها بحق، ولا أكرر التصاميم فهي لا يمكن أن تشبه بعضها، لأنّ كل ليفة مختلفة عن الأخرى والتالي كل تصميم سيكون فريداً وصاحب هويته الخاصة، ليس كاملاً إنما ببساطة طبيعي ويعكس جمال وتنوّع الطبيعة بكل حذافيرها ونواقصها.

حالياً ولأني راغبة بإيصال فكري وفني لفئات أكبر، حضّرت مجموعة تضم 100 لمبة بعنوان Volcano Lamps، ستصدر في فترة نهاية العام، ويمكن الحصول عليها بأسعار مقبولة، وذلك لكي أؤكد أنّ الجميع وبغض النظر عن قدراتهم المالية يمكن أن يبدأوا بتغيير توجهاتهم الاستهلاكية والحصول على سلع مستدامة تراعي البيئة وتثبت حرصهم على الأرض وثرواتها.

كيف وصلت إلى دبي، وما الذي وجدته في الإمارات وساعدك في توسيع أعمالك الفنية والتصميمية المستدامة؟

قدّمت على الفيزا الذهبية عن فئة المواهب وحصلت عليها ووصلت إلى الإمارات مع شغف كبير لأن أقدم الليفة في هذا السوق الواسع، وتلقيت الدعم من الكثير من الجهات، فشاركت في أسبوع دبي للتصميم، ولاقت المنتجات الاستحسان، وكنت أجيب بكلّ حماس عن تساؤلات الجمهور حولها، بعضهم عرفها وآخرين من جنسيات غير عربية اهتموا باكتشافها، وشعرت أنّ في هذا البلد جماهير واسعة مهتمة بالتصميم المستدام، وأنا اليوم أطمح لتحقيق المزيد من طموحاتي على أرضه التي تقدم كل أنواع الدعم للفن والإبداع.

في المقابل لم أجد المتجر الذي أبيع فيه منتجاتي فأنا لا أريد وضعهم بجانب سلع استهلاكية لا تراعي الاستدامة، أو أن أبيعهم في متجر يضع تصاميمي في أكياس بلاستيكية، لذا تتواجد منتجاتي فقط في بينالي جدة في السعودية وعبر الموقع الإلكتروني. أفضّل بكل صراحة التعامل مع الأشخاص الذين يقدّرون الطبيعة بحق ويهتمون بها لذا يقصدونني لشراء منتجاتي، وليس الراغبين باتباع صيحة “الاستدامة” فيحصلوا على القطعة ليضعوا لها بضع صور على إنستغرام ويتباهون بأنهم مهتمين بالبيئة والطبيعة ولاحقاً ينسون أصلاً ماهية هذا الغرض الذي وضعت فيه الكثير من نفسي وموهبتي وتعبي ورسالتي.

هل من السهل على الفنان تحويل أدواته ووسائطه نحو المواد المستدامة؟

في العالم العربي هناك الكثير من الخيارات والوسائط الطبيعية المتاحة أمام الفنانين، فأنا مثلاً سأبدأ بالعمل على بذور التمر، ولديّ الكثير من الأفكار الخلاقة التي أسعى إلى تحقيقها، وبالتالي ما علينا إلا النظر حولنا وسنجد الكثير من المواد الصالحة للاستخدام. في عملي على الليفة أردت إثبات أنها قادرة أن تدوم إلى الأبد إذا استخدمناها بعيداً عن الماء، حيث اعتدنا على تواجدها، فهي تتعفن مع الماء بعد استخدامها لشهرين أو أكثر قليلاً، هنا جاء دوري كمبدعة وفنانة أن أفكر خارج الصندوق، فأدخلت إليها الحرارة وضمنت أن لا تهتريء.. بالتالي أمامنا الكثير، هناك الرمل والماء والصحراء والنباتات، وهي كلها مواد خام يمكن العمل عليها فنياً وتصميمياً لابتكار ما يذهل العقل حقاً.

ما هي مشاريعك المقبلة؟

أنوي المشاركة في غاليريات واستديوهات لعرض منتجاتي، كما أحب لقاء الجيل الجديد من المصممين والفنانين لكي نستفيد من بعضنا البعض ونتبادل الخبرات والتجارب، ونبني مجتمعاً أكبر من المبدعين العاملين في مجال الاستدامة، كما أني أعمل على مشروع خاص بالصحة والعافية سيكون منصة بعنوان Noorish حيث تلتقي فيها النساء من مختلف الأعمار لمشاركة معارفهن حول التعافي والصحة وإعادة التواصل مع الجسم والروح، والعودة إلى الطبيعة مع أجسادنا، لندرك أن الشفاء لكلّ مشاكلنا الصحية والنفسية موجود حولنا على هذه الأرض المعطاء، بالإضافة إلى أن طموحي اللاحق سيكون تأليف كتاب حول النباتات في لبنان وخصائصها العلاجية، بشكل جديد ومبتكر وعصري.

اقرئي المزيد: سارة المازمي: أرسم عن الحب والجمال والدهشة والامتنان للحياة

المجلات الرقمية

قد يهمك أيضاً

اشترك في صحيفتنا الإخبارية