مقابلات

نور الحاج: أساس العمل بالنسيج طاقة اليدين المرتبطة بالذهن لإيصال فكرة فنية جديدة

الفن بكلّ أشكاله نوع من أنواع التعبير عن الذات والتواصل مع الآخر، وحين يكون العمل يدوياً فإنه يعكس روح وشغف وحب كبير للعمل لدى من يقدمه، فتتحوّل اليدين إلى وسيلة للخلق والإبداع، في شكل رائع يعكس الرفاهية الحقيقية، ويتجلى في قطع فريدة لا يمكن لأي مصنّع مهما بلغت قوته الإنتاجية وتقنياته الحديثة أن يوازيها جمالاً وتأثيراً. تعرفي على 4 فنانات شابات يعملن بحب وقوة لإبراز مواهبهن بشكل يحاكي الجيل الجديد ويلبي رغبته في التميّز والفرادة والأصالة، ونخوض لآن في عالم الفنانة نور الحاج.

تطوّع الفنانة والمصممة اللبنانية نور الحاج الأنسجة والأقمشة لتحوّل المادة الخام الجامدة إلى قطع فنية تنبض بالحياة والأحاسيس والقصص والرسائل. عمل متقن، فاخر ومتعب أيضاً، يتطلب الدقة والتركيز والشغف الكبير، لتكون النتيجة فنّ من نوع آخر، لعلّه جديد على الجمهور العربي الذي اعتاد ربط النسيج بالأزياء المخصصة للارتداء، ولكنّه يجد بالتأكيد طريقه نحو الجيل الحالي المحب للاستكشاف. التقينا نور التي أخذتنا إلى عالمها وكشفت لنا الكثير من خفايا العمل اليدوي القادر على خلق إبداعات لا تتكرر.

تقول نور “طوّرت علاقتي بالنسيج والأقمشة منذ زمن بعيد، تحديداً سنوات طفولتي حين كنت أشاهد والدتي وجدتي يحكن الملابس، حتى أن جدتي التي كنت أرتبط معها بعلاقة قوية جداً كانت تنسج السجاد وتطلعني على الأنواع المختلفة من الأقمشة التي تناسب كل نوع من الإنتاجات والتقنيات اللازمة لتحويل القماش إلى النوع المطلوب. وكانت ميولي الطبيعية تذهب في هذا الاتجاه دون إحساس واع مني، فدرست تصميم الأزياء وعملت لفترة في هذا المجال، وازداد اطلاعي على التقنيات والمواد الأولية، ووجدت أن شغفي الأكبر يتعلق بإبداع أعمال فنية تحاكي الثقافة التي نشأت فيها وتحمل رسائل ملهمة وقوية من خلال القماش”.

جيل اليوم يبحث عن القطع الحيوية والطبيعية والمستدامة التي تحمل قيمة معنوية وتخبئ قصة خلفها

ترى نور أنّ الجيل الجديد أقّل ميلاً من الذين سبقوه نحو العمل اليدوي، وتشرح وجهة نظرها “في السابق كانت جداتنا تقوم بالعمل اليدوي من خياطة وتطريز للاستهلاك الفردي، أما اليوم فالشابات يفكرن بالعائد المادي لعملهن، ومع انتشار الشركات الكبرى التي تصنع الملابس بأحدث التقنيات وبأسعار مقبولة، يعتبر الاستثمار في العمل اليدوي والذي يحمل الفرادة والتميّز، أٌقل. نعيش في عالم حيث كل شيء سريع وحيث الصيحات تتغيّر ويزيد الطلب عليها في موسمها فقط لنجد أفكاراً جديدة في السنة اللاحقة. لكني أيضاً أشهد عودة الطلب على القطع الحيوية والطبيعية والمستدامة التي تحمل قيمة معنوية وتخبئ قصة خلفها، من هنا أستمر في العمل والإصرار على تقديم ذاتي كفنانة تعمل بيديها بجهد وحب لما تقوم به، حتى توصل أفكارها للعالم”.

تركز الفنانة الشابة على الأبحاث قبل الانطلاق بأي عمل إبداعي، وتتعمق في القراءة وتعود إلى التاريخ والجغرافية لتعكس صوراً عن الثقافة العربية ورموزها ومعانيها، وتفتخر بأن كل عمل تقدمه يكون نتيجة عملية طويلة تتطلب جهداً نفسياً وجسدياً أيضاً، تقول “العملية الطويلة التي تسبق النتيجة النهائية، هي الأساس في فني فأنا أولي كل التفاصيل أهمية كبيرة، وأحوّل مادة جامدة ذات لون وخامة معينة، إلى موضوع قوي ومؤثر، يصل إلى القلب ويحاكي العقل، وذلك بشكل أساسي من خلال يداي، صحيح أني أستعين بتقنيات محددة لتسهيل عملي، ولكنّ الأساس يتعلق بطاقة اليدين، متصلة بالذهن ومرتبطة بفكرة أريد للآخر أن يشعر بها، فعملي يتوجه نحوه، وهو بمثابة جزء من روحي يتصل به، لذا يهمني أن أقدم شرحاً بسيطاً عن أعمالي، ولكني أيضاً أريد للمشاهد أن يطلعني على ما اختبره من مشاعر وأفكار. أحب أن أسمع رأيه وأستمتع بالأسئلة التي يطرحها وبالمشاعر التي تحركت داخله، لأني أنا أيضاً حين أزور معرضاً فنياً أدقق النظر في اللوحة وأترك لمشاعري أن تذهب حيث توجهها، بعد ذلك أقرأ وصف الرسام لكي أعرف إن كانت فكرته قد وصلتني حقاً.. برأيي فإن القطعة الفنية القوية هي التي تحرك مشاعرنا: سواء سعادة أو حب أو كره أو غضب أو حتى اشمئزاز، أما تلك التي نمر أمامها من دون أي شعور فهي لم تنجح وليس لها معنى”.

أحب ملمس الأقمشة المختلفة وقدرة بعضها على أن يشيخ بشكل رائع ومبهر

وعن خفايا العمل اليدوي تقول “أحب ملمس الأقمشة المختلفة وقدرة بعضها على أن يشيخ بشكل رائع ومبهر! وأعتقد أن امتلاك قطعة فنية قادرة أن تتقدم في السن فتتغير مثل الإنسان وتصمد في وجه كل الظروف، بل وأن تصير الخامة أجمل وأكثر تأثيراً لهو أمر رائع.. عملي يختلف بحسب نوع الخامة، وهو متعب ويتطلب الصبر والوقت والجهد البدني، فأنا أعاني صحياً من أوجاع في اليدين والكتفين والظهر، ولكنّ كل ما أواجهه من صعوبات يختفي حين أرصد نتيجة تعبي أمامي”.

تعتبر نور أنّ الفن هو أداة للوصول للآخر بغض النظر عن جنسيته وثقافته، “فهو حتى إن لم يفهم الرموز الخاصة بكل ثقافة، سيصله إحساس ما من خلال اللوحة أو القطعة الفنية، بالنسبة لي أشعر أن أعمالي الفنية فيها جزء من موطني لبنان، صحيح أن بعضها يحمل القسوة ولكنّها مغلفة بالجمال، تعيدني إلى بيروت وروحها الثائرة، وكل ما فيها من تناقضات، صحيح أني عشت في باريس ولندن وأتواجد اليوم في دبي بكل الانفتاح الثقافي والحضاري الذي أتمتع به في هذه المدينة الحيوية، ولكن نشأتي وما تعلمته من جدتي ووالدتي، يعود دائماً للظهور في أعمالي ويميّزها شئت أم أبيت”.

الفن تأثر بالثورة الرقمية إنما هذا لا يجب أن يؤثر على اللمسة البشرية أو يهددها، لأنها الأساس في الابتكار والإبداع

لا تمانع الفنانة والمصممة المبدعة من استخدام التقنيات الحديثة كأدوات لمساعدة الفنان في الأبحاث والتصوّر الأولي لعمله، ولكن بشرط أن لا يكون الاعتماد عليه كاملاً فيظهر في النتيجة النهائية، تقول “يجب على الفنان إيجاد التوازن بين التعبير عن أفكاره ورؤيته ونهجه الفني وبين الاستعانة بالذكاء الاصطناعي أو الفن الرقمي، فالفن كغيره من القطاعات الحيوية تأثر بالثورة الرقمية، إنما هذا لا يجب أن يؤثر على اللمسة البشرية أو يهددها، لأنها الأساس في الابتكار والإبداع “.

يهدف عمل نور الفني إلى إظهار مدى تأثير ودور المرأة في التعامل مع المواد الصعبة وتليينها لكي تُظهر الجمال والصلابة من خلالها “صحيح أني تأثرت بمحيطي من النساء العاملات مع الأقمشة ولكني أعرف أيضاً أن المرأة قادرة على تقديم الكثير من الإبداعات في أي مجالات تختارها، لذا فإني أحمل على عاتقي التركيز على إظهار جهودها والاحتفاء بها سواء في أيامنا هذه أم عبر التاريخ، ومساعدة من حولي من الشابات سواء أكنّ موهوبات فنياً أو فقط شغوفات بالعمل اليدوي على أن يعبرن عن أنفسهن ويظهرن للعالم قدراتهن”.

تشارك نور في معرض “صلة”، في مركز مرايا للفنوان، الذي يعرض أعمال 25 فناناً قاموا بإعادة تخيّل التطريز الفلسطيني ضمن أشكال معاصرة، وعن هذه المشاركة تقول “هذه ليست المرة الأولى التي أعمال فيها على التطريز الفلسطيني، فقد تعاونت مع لاجئات سابقاً حين كنت مصممة أزياء، ولكني رحبت بالفكرة حين تم عرضها عليّ، لأني أردت عكس مشاعري وأفكاري حول كل ما يحدث اليوم في هذا البلد، لأعيده إلى الواجهة بشكل مختلف، يحاكي الواقع القاسي، واستفدت من كم الأحاسيس التي تغيّرت داخلي حين أصبحت أمّاً، فقد أنجبت طفلي بعد فترة وجيزة من بدء أحداث غزة في أكتوبر، حيث تغيّرت نظرتي للأطفال بشكل عام، وبتّ أكثر تعاطفاً وشعوراً بهم، واستخلصت فكرة تجمع الكثير من معاني المقاومة والرغبة بالحياة والاستمرار، وتعكس الثقافة بشكل معبّر”.

تضيف “انطلقت من شجرة السرو وهي رمز للأمل والصمود، حيث يتغير شكلها ولكنها ثابتة في جذورها ومعانيها: قوية وصامدة في وجه الزمن. قمت بصبغ القماش باللون النيلي الطبيعي، وهو صبغة متجذرة بعمق في التراث الفلسطيني، حيث كان يُعتقد أن الأزرق يحمي من العين الشريرة. أما الخيوط الحمراء، فهي تُذكّرنا بدم الحياة والقلب، فتجلب الحيوية لتكون رمزًا للحماية والاستمرار بالحياة. تظهر شجرة السرو في العمل كجزء من ياقة ثوب من غزة، بزخرفة “قلادة”.. وفي تقاليد النسيج الغزية، كما هو الحال في فلسطين عمومًا، تتعدى زخارف القلادة كونها زينة فهي تُعدّ قطعاً أساسياً تُلبس، تحمل في طياتها سحرًا وقوة. أُنجزت هذا العمل بالتعاون مع جمعية “إنعاش”، التي تدعم الحرفيات في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وسيتم التبرع بعائداته لجمعية تعنى بأطفال غزة”.

اقرئي المزيد: نهير زين:أن نصنع تصميماً وفناً من الصفر رائع ويعكس الرفاهية الحقيقية

المجلات الرقمية

قد يهمك أيضاً

اشترك في صحيفتنا الإخبارية