مقابلات

نورا زيد: الفن يسمح للناس بالترويّ والتأمل وهذا عمق معنى الرفاهية

الفن بكلّ أشكاله نوع من أنواع التعبير عن الذات والتواصل مع الآخر، وحين يكون العمل يدوياً فإنه يعكس روح وشغف وحب كبير للعمل لدى من يقدمه، فتتحوّل اليدين إلى وسيلة للخلق والإبداع، في شكل رائع يعكس الرفاهية الحقيقية، ويتجلى في قطع فريدة لا يمكن لأي مصنّع مهما بلغت قوته الإنتاجية وتقنياته الحديثة أن يوازيها جمالاً وتأثيراً. تعرفي على 4 فنانات شابات يعملن بحب وقوة لإبراز مواهبهن بشكل يحاكي الجيل الجديد ويلبي رغبته في التميّز والفرادة والأصالة، والبداية مع نورا زايد.

“كنت صغيرة جدًا حين بدأت بالرسم، تنقلت عائلتي كثيرًا بسبب التزامات مهنية، نشأتُ بين مصر والسعودية والإمارات وإندونيسيا، وكنا أحيانًا نغادر البلد بسرعة كبيرة للانتقال إلى مكان آخر والاستقرق فيه، لذا كان من الصعب جدًا عليّ تكوين الصداقات فأصبح الرسم ملاذًا ومصدرًا للسلام”.

 بهذه الكلمات بدأت الفنانة والرسامة التشكيلية والمصممة نورا زيد وأخذتنا معها في رحلة إلى عالمها، لنتعرف على شغفها ونكتشف كيف كان ليديها وفكرها وخيالها الدور الأكبر في جعلها واحدة من ألمع الأسماء على الساحة العربية الثقافية والفنية.

تقول “مع تقدمي في السن، أصبح الرسم أيضًا وسيلةً لي لفهم العالم والتعبير عن أفكاري وآرائي. والآن، لم يعد شغفي فحسب، بل أصبح مسيرتي المهنية أيضًا. وأفتخر أن أقول إن جيل اليوم أكثر وعيًا بأهمية الفنان وعلاقته بعمله، فقد طرأ تحول ملحوظ في طريقة التفكير والبحث عن طرق جديدة للتعبير. لم يعد الأمر يقتصر على العمل الفني فحسب، الآن، يُتوقع من الفنانين توسيع اللحظة التي يشاهد فيها الناس أعمالهم الفنية إلى سلسلة من اللحظات، فيعرفون من خلال مجهوده الكبير من هو الفنان، وما هي مساحته، وما الذي يراه لكي ينتج العمل الفني الذي يختبرونه ويشعرون به، بالتالي يختلف ذوق الجمهور بمرور الوقت، وقد ازداد الوعي لديه بالتأكيد، لكنني أعتقد أن التغيير الأكبر يكمن في طريقة تجربة العمل الإبداعي”.

حدثتنا نورا عن خفايا عملها وقدرتها على تحويل فكرة في ذهنها إلى عمل فن راق وفاخر ومليء بالإبداع والعمق، تقول “دائمًا ما يشعر الناس ببعض الحيرة عندما يرون دفتر الرسم الخاص بي. تتضمن المراحل الأولى من عملي الكتابة أكثر من الرسومات، وخاصةً في المشاريع الكبيرة. تساعدني الكتابة على صقل بحثي. فهي تسمح لي بتبسيط مجموعة من المفاهيم والموضوعات ولوحات الأفكار إلى فكرة واضحة يمكنني الارتجال عليها. أتجول ببساطة حتى أجد المسار الأنسب. بمجرد أن أفعل ذلك، أشعر براحة أكبر وأنا أغرق في عملية الرسم التوضيحي.. وهكذا انطلقت سلسلة أحد أهم أعمالي “القاهرة المصورة”.

تكمل “أحيانًا، أكون أكثر عفوية. أقل تفكيرًا، وأقل كتابة. أرى شيئًا أو شخصًا يلفت انتباهي، فأشعر برغبة في رسمه، وهكذا أفعل. ينطبق هذا بشكل خاص على رسوماتي الحية. ففي هذه الرسومات، أتبع شيئاً جذب انتباهي مثل اختفاء الضوء عند غروب الشمس. هذه اللحظات تمنعني من الإفراط في التفكير، وتسمح لي بالتقاط ما أستطيع خلال الوقت المتاح لي. هذه العملية تجعلني أكثر حضورًا، كما أن هذه اللحظات الصغيرة تُثري إبداعي على المدى البعيد”.

قلنا لها: أنتِ تعملين بيديك وعقلك معًا لإبتكار تصاميم وأعمال فنية ذات معنى وبُعد. أخبرينا عن جمال وأهمية الحرف اليدوية في خلق فن أصيل لا مثيل له، في عالمٍ سريع الوتيرة، حيث التركيز على إنتاج كمياتٍ كبيرةٍ ومتطابقةٍ من السلع الاستهلاكية، فما اللمسة الفريدة التي يُضيفها الفنان إلى إبداعاته، مُبرزًا إياها ومُضيفًا إليها الفخامة والحصرية؟

إنه لشرفٌ أن يكون لدينا الوقت للتروّي والتأمل.. إنها مهارةٌ تحتاج إلى صقل

ففسرت لنا أبعاد عملها بالقول “لطالما كان العالم سريع الوتيرة، ومع توفّر أدواتٍ كالذكاء الاصطناعي، أصبح الناس قادرين على إنتاج أعمالٍ فنيةٍ أسرع وصور وتصاميم. ما قد يضيع في هذه العملية هو القصد، القصة، وهذا ما يتمسّك به الفنان: الفكر المُتعمّق وراء كل خط، كل ضربة، كل لون. يتلاشى هذا عندما يُبتكر الكثير مما حولنا في محاولةٍ يائسةٍ لجذب انتباه الناس. إن تخصيص الوقت لإبداع شيءٍ ما بقصدٍ مُحدّد، يدعو الناس إلى التمهل. حتى عملية التكرار، أي تكرار نفس الشيء بيديك مرارًا وتكرارًا، يترك أثرًا يُمكن للناس رؤيته والتواصل معه على المستوى الإنساني، وهذا الأمر بالتحديد أي إتاحة مساحة للناس للتروّي هو بحد ذاته في عمق معنى الرفاهية.”

تضيف “إنه لشرفٌ أن يكون لدينا الوقت للتروّي والتأمل. إنها مهارةٌ تحتاج إلى صقل.. أن تكوني قادرة على التأمل، والإعجاب، والتفكير في العالم من حولك، ونحن كفنانين نستطيع تقديم هذه التجارب من خلال أعمالنا.”

إذا كان ما أفعله يبدو سهلًا فمن المرجح أنني لا أتحدى نفسي بما فيه الكفاية

وعن روتينها المعتمد في العمل الإبداعي، كشفت “أستمتع بالرسم في الصباح الباكر وفي وقتٍ متأخرٍ من الليل. قد لا يبدو الأمر منطقيًا، لكنني ببساطة أحب الهدوء والسكينة، عندما يستريح الجميع وينامون، تقل الأشياء التي تُشتت انتباهي وأغرق في حالةٍ من التدفق. أما بالنسبة لابتكار أفكارٍ جديدة، فأنا أستمتع عادةً بالاستماع إلى البودكاست حول مواضيعَ متنوعة، من التاريخ إلى الموسيقى والثقافة. هذه البودكاست تُدخلني في دوامةٍ من الأفكار المُثيرة. أستمتع أيضًا بالتصوير، فألتقط مئات الصور خلال أسفاري، خاصةً عندما أكون في مصر. وبالطبع، أبذل قصارى جهدي لتجنب الشعور بالراحة المفرطة أثناء التصوير، فإذا كان ما أفعله يبدو سهلًا، فمن المرجح أنني لا أتحدى نفسي بما فيه الكفاية”.

وحول أكثر الأعمال التي تطلبت منها تركيزاً ومتابعة ومجهود، تقول “من بين الأعمال الفنية التي صممتها والتي تُلامس وجداني هي سلسلة “القاهرة المصورة”، فقد قرّبتني من مدينتي، وقادتني إلى لقاء فنانين وأكاديميين رائعين. على الصعيد الشخصي، أنا مغرمة جدًا برسومات رحلاتي، تلك التي أرسمها لنفسي، توُذكّرني بمدى عشقي لما أفعل”.

تدور العديد من أعمال نورا حول التمثيلات البصرية للمدينة وكيف يؤثر ذلك على علاقة الناس بالأماكن. لذا سألناها: لماذا اخترت تصوير المدن أو الأماكن؟ وما هي الأماكن التي تؤثر عليك أكثر؟

أجابت “لقد شهدنا على التطور الحضري سريعاً في القاهرة، وخاصةً في السنوات القليلة الماضية، وهذا الأمر ولّد لديّ شعورًا بالحاجة المُلِحّة في تصوّر عمارة المدينة ومناظرها الحضرية وعكسها من خلال فني. وقد كان لهذا تأثيرٌ كبيرٌ على عملي، ومن الأمور الأخرى التي أثّرت بي بشكلٍ كبير، طبيعة الحياة الصاخبة هناك، فالمدينة تُغمرك، وتتطلب انتباهك الدائم.. رسوماتي ليست مجرد وسيلةٍ لرفع مستوى الوعي بتراث المدينة المعماري والقصص المحيطة به، بل هي أيضًا وسيلةٌ لفهم المدينة”.

عملنا الفني الجماعي يؤثر على المشهد الإعلامي ونظرة العالم لما نختار تصوير

أما بالنسبة لقدرة ودور الفنان في رفع مستوى الوعي بالمجتمعي بقضايا مهمة، فرأت أنه “إذا لم يعكس فن المرء قضايا الحياة، فهذا يعني ببساطة أن الفنان يتمتع بامتياز كافٍ لعدم التأثره بها. علاوة على ذلك، إذا قررتُ رسم، لنقل، نصبًا تذكاريًا في القاهرة مع حذف العيوب، مثل شقوق الجدران، أو الأشخاص الذين يعيشون حوله، فإن هذه القرارات تؤثر على القصة التي أرويها وانطباع الناس عن تلك المساحة. الآن، قد لا يُحدث عملي الفني الفردي فرقًا، لكن مئات الأعمال الفنية والأفلام والعروض والصور الفوتوغرافية التي تُظهر مساحةً معقمةً خاليةً من الناس، قد يكون لها جمهور يربط جمالها بذلك الفراغ. ثم، عندما تُبذل الجهود لاستعادة تلك المساحة، يصبح سكانها آخر الأولويات.. تبدو الأماكن بشكل مُعين بسبب تأثير السياسة والمجتمع عليها.

لذا، للإجابة على سؤالك، أقول بينما لا بأس بالإبداع لمجرد رغبتنا، دون الشعور بثقل العالم على أكتافنا، علينا أيضًا أن نكون واعين. سواءً شئنا أم أبينا، فإن عملنا الجماعي يؤثر على المشهد الإعلامي ونظرة العالم لما نختار تقديمه”.

تطرقنا معها إلى مفهوم الرفاهية الحديثة، وسألناها: برأيك، هل تغير معنى الرفاهية بالنسبة للجيل الجديد ولم يعد يقتصر على الجوانب المادية للحياة؟ فشرحت رؤيتها حول هذا الأمر بالقول “أعتقد ذلك. كنتُ أتحدث سابقًا عن النية، وكيف أنها تترك لنا مسارات نتبعها، لنكتشف القصة وراء الأشياء.

وهذا ينطبق أيضًا على الجوانب غير المادية للحياة، وخذي السفر كمثال، فهو ترف، لكن ليس كل من يسافر يستطيع أن يعيش اللحظة بكاملها، وأن يغمرها بعمق، وأن يغوص فيها بكل كيانه، وأن يغير نظرته للعالم وتجاربه من خلالها. فالحياة سريعة، وكثير منا يقضي وقته في محاولة إبراز الثروة والوصول إلى هذه الترف، بدلاً من الانغماس في ما يجعله ثميناً ومميزاً.

تكمل “أعتقد أن هذا هو سبب بدئي بالرسم أثناء السفر. في البداية، كنت في إجازة وقلت لنفسي: لا أريد الرسم، لكن عندما بدأت برؤية المناطق والمعالم الطبيعية في جورجيا أو أوزبكستان أو المغرب مثلاً، كنت أقف عاجزة عن استيعاب الجمال الذي يحيط بي ويملؤني بشعور غامر. كان الإحساس كبيراً جداً فلم أستطع منع نفسي من الرسم، وترك الشعور يتمدد وينسكب على الصفحة، وهذا ما أعتبره ترفاً… أن أكون قادراً على الجلوس هناك، والتأمل في هذه الأماكن بعمق، ثم مشاركة اللحظة، من خلال لقطة سريعة، أو رسم تخطيطي، أو لوحة”.

هدفي هو الحفاظ على فضولي تجاه تراثي وتاريخي حتى أستمر بإثارة فضول الآخرين

تستطرد “لذا أرى أن العيش برفاهية يعني  يكون لديك وقت للتمهل.. يعني أن تحظى بتلك اللحظات التي تحتاجها لإعادة شحن طاقتك، لأن تكون حاضرًا مع أحبائك. ويعني أيضًا تخصيص وقت لمشاهدة الأفلام وقراءة الروايات والانغماس في أحاديث ولقاءات عميقة تثري وجودك”.

ترغب نورا بالاحتفاظ بقدرتها على التجربة، تشرح فكرتها بالقول “عندما كنت في المدرسة، كان من الأسهل عليّ صنع الأشياء ونشرها، فما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ لأني كنت غير معروفة. الآن وقد بنيتُ مسيرتي المهنية، أصبح الأمر أكثر رعبًا، صحيح أنّ لديّ ثقة بأن ما قدمته نجح في الوصول إلى الجمهور، ولكن الخوف يكمن في عدم النجاح في الاستمرار بفعلها، لذا هدفي هو الحفاظ على فضولي تجاه تراثي وتاريخي، حتى أستمر بإثارة فضول الآخرين وهذا بحدّ ذاته هو استمرار في العطاء والنجاح”.

اقرئي المزيد: الفنانة ليلي المصري: الرفاهية باتت تتعلق بالتجارب والتوازن والأصالة

المجلات الرقمية

قد يهمك أيضاً

اشترك في صحيفتنا الإخبارية