تضجّ الحياة بأشكالها وألوانها في لوحات وتصاميم الفنانة الشابة عليا بساط، فالفنانة التي درست التصميم الغرافيكي تسعى إلى تحويل الأفكار والذكريات إلى صور مرئية ناطقة بالمشاعر والحنين، وقد اخترناها لتكون معنا في شهر نوفمبر المخصص للخروج من الدوائر المغلقة ومواجهة التحديات، لتعكس بفنها الطرق الكفيلة بذلك، وهي تخبرنا المزيد عن عملها وموهبتها في هذا اللقاء.
لماذا اخترت دراسة التصميم الغرافيكي لتعبري عن أفكارك الفنية من خلاله؟
أحببت التعبير بالفن والرسم والأشكال منذ صغري، كنت فتاة خجولة وغير متمكنة تماماً من التعبير بالكلام، وحين كنت أدرس في المدرسة كنت أرتب أفكاري من خلال الصور والمشاهد وليس الكلمات، ولكني لم أعرف كيف أقّوي مهاراتي بالرسم، فصرت أدمج الألوان والأشكال لكي أخرج رسماً غريباً إنما جميلاً وجاذباً للعين. كنت التلميذة الوحيدة في صفي التي تحب صف الرسم وتنتظره لكي تنهل المعرفة من المعلمة وتزداد معرفتها بتقنياته. كان الرسم وسيلتي للتعبير عن غضبي وحزني وفرحي، حين كبرت قليلاً تأكدت من شغفي هذا وصرت آخذ دروساً ودورات خصوصية، ودعمتني والدتي كثيراً في هذه الفترة، فازداد تعبيري من خلال سكتشات أو رسومات بسيطة، أتركها لديّ ولاحقاً أدمجها مع أفكار أخرى حتى تكتمل فكرتي من العمل، ومن فترة بدأت أشارك أعمالي الفنية على صفحة خاصة عبر إنستغرام هي: aliabissat.pdf، ولاقت الكثير من الإعجاب والترحيب من الجمهور.
متى عرفت أنك ستحولين شغفك بالفن والرسم والتصميم إلى مهنة ثابتة ودائمة؟
كان الأمر بمثابة الحلم الذي أراه يتحقق أمامي، حين توجهت للجامعة أردت دراسة الفنون الجميلة، ولكنّ محيطي أقنعني أن عليّ اختيار اختصاص يخولني العمل والحصول على مهنة ثابتة، وقد اقتنعت بوجهة نظرهم ودرست التصميم فهو مجال إبداعي، ويجمع بين التقنية والرسم وقد ساعدتني الدراسة في التعرف على الفن الرقمي فقربتني من الشاشات والكمبيوتر، ولكنها أبعدتني عن الفن اليدوي، واستنفذت وقتي ومجهودي وطاقتي، هنا قررت افتتاح صفحتي التي ذكرتها سابقاً عبر إنستغرام، لتكون منفذاً إبداعياً أشارك من خلالها رسوماتي وتصاميمي التي أقوم بعرضها لإرضاء شغفي بالفن، وأحقق أحلامي الفنية، وقد حصل هذا الأمر حين انتقلت إلى دبي خلال العام الفائت، وهناك تسنى لي الوقت والفرص لكي أركز أكثر على فني، وأعرض لوحاتي أمام الجمهور، كي يختبروه ويشعروا به ولعلهم يحصلون عليه ليعرضوه في منازلهم.

هل تخشين أن يؤثر التطور التكنولوجي على الإحساس الفني بشكل عام وعلى عملك بشكل خاص، وكيف تحرصين على تضمين أعمالك لمسة من الفرادة التي تعكس أسلوبك وأفكارك؟
بالتأكيد أخشى من سطوة التكنولوجية على الحياة الفنية، وتحديداً خلال العام الفائت حين انتشرت صيحة استخدام الذكاء الاصطناعي لابتكار شخصية إلكترونية كرتونية لكل شخص ووضعها مكان الصورة المخصصة له على وسائل التواصل، ففي السابق كان الفنان يعطي من وقته أياماً وشهوراً لكي يبتكر شخصية كرتونية جديدة ومميزة تحمل بصمته، بينما اليوم يمكن بلحظات ابتكار أي شكل وإطلاقه أمام الجمهور، بطريقة لا تحمل أيّ حسّاً إنسانياً خاصاً.. أذكر وقتها أني لم أشارك بتلك الصيحة لأني أدركت مدى الظلم الذي يتعرض له الفنانون حين تنتشر هذه الصيحات السريعة والمتغيرة والتي لا يوجد أي خلفية معرفية أو شغف أو خبرة وجهد لتطبيقها.
في المقابل، أنا أعرف تماماً أن الذكاء الإصطناعي تم تطويره من قبل الإنسان، لذا فإن علينا استخدامه بطريقة تخدم مصلحتنا، والتأقلم معه لمواكبة المستقبل، بالتالي أنا موقنة أنه لن يحلّ مكاننا في نواحي الإبتكار والإبداع والحس الإنساني، ولكنه قادر على مساعدتنا لتطوير أدواتنا إن أحسّنا استخدامه ولجأنا إليه عند الحاجة لتسهيل عملنا.
حين تنتهين عن عمل فني، ما هي المشاعر التي تحبين تحريكها لدى الآخر، هل هي السعادة أم الحنين أم التطلع للمستقبل؟
أحب إثارة الحنين إلى الماضي لدى الآخر، تحركني القصص التي كنت أسمعها من والدتي وجدتي عن لبنان في الماضي، لذا أترك بعض التفاصيل القديمة المدموجة مع أسلوبي الحديث وألواني الحيوية وأشكالي المعاصرة، فتصل إلى الأكبر سناً وتحرك الشباب وتذكرهم بهذه الذكريات الجميلة، كما أحب أن تكون أعمالي مرحة وسعيدة ومليئة بالأحاسيس الأصيلة. حين أرسم أو أصمم اليوم وأنا في الغربة، أعود بذاكرتي إلى الشارع الذي ترعرت فيه، وإلى الدكان الذي كنت أقصده صباحاً لشراء اللبان أو التشكلتس بشكل خاص والتي صورتها في أحد أعمالي التصميمية، فيكون الشعور غامراً وقوياً ويصل إلى الآخر بكل حقيقته وتجلياته.
مؤخراً قدمت مجموعة صورتها بعدسة هاتفي المكسورة، وأسميتها Thru my broken lens، وقدمت فيها صوراً ذات طابع “فينتج” قديم حيث أجمع بين التصوير والرسم وتركيب بعض المشاهد، لكي تكون النتيجة لوحة عبارة عن ذكريات متنوعة تثير الأحاسيس ولذكريات وتحرك المشاعر القوية لدى الآخر.

لبنان حاضر في معظم أعمالك، فما الذي يعنيه انتماؤك لهذا البلد، وما هي أجمل ذكرياتك فيه والتي عبّرت عنها من خلال الفن؟
لا يوجد كلمات يمكن أن تصف حبي لهذا البلد، وأنا لم أتخيل يوماً أني سأتركه، فهو سبب عشقي وشفغي الكبير بالفن، وملهمي الأول بكلّ أعمالي، لأن ثقافتنا وحواراتنا وشعبنا الدافئ والمحب، هم أسباب رغبتي بالتعبير وعكس طريقة الحياة اليومية التي نعيشها.. يوجد تفاصيل لا يدركها أحد غير اللبناني: كالحديث الصباحي مع الجارة، أو بائع الخضار، أو الشخص الذي كنت سأصطدم به بسيارتي بسبب غياب إشارات المرور، أو الإشكال الصباحي الذي يطالعني لدى الذهاب إلى الجامعة وعدم معرفتي إن كان عليّ التدخل لفضّه، أو الهروب قبل أن يحتدم الشجار.. كل هذه التفاصيل بحلوها ومرّها هي ما صنع ذكرياتي في لبنان.. هذه الفوضى الجميلة هي ما أحب إظهاره من خلال خليط ألوان جنونية، وليس بشكل سيء أو سلبي.
كيف تعكسين مصادر إلهامك لتتحول إلى فكرة لوحة جديدة ومليئة بالإبداع؟
تلهمني تفاصيل الحياة اليومية التي عشتها في لبنان، فمثلاً لديّ بوستر مستوحى من أغنية “عهدير البوسطة” لفيروز، وأعتقد أن أمي أطلقت عليّ اسم عليا بسبب تأثرها بها، وكانت تغنيها لي في طفولتي طوال الوقت، وقد كرهتها في صغري ولكني اليوم أحبها كثيراً لأنها تذكرني بتلك الفترة، وقدمت عملاً استوحيته منها خلال وجودي في دبي، جمعت فيه عناصر مختلفة تعكس معاني الأغنية وحرارتها وكلماتها مع صورة لباص رأيته في لبنان، ومزجت الكثير من العناصر لتكون النتيجة لوحة من الأعز إلى قلبي وضعتها في منزلي. لديّ أيضاً لوحة أخرى مستوحاة من منطقة الأشرفية مع سيارة قديمة شاهدتها فيها، فجمعت عدة عناصر مختلفة عكست فيها روح المكان ومعانيه بالنسبة لي.. أحياناً أستوحي من أفكار أصدقائي ومن مشاهد أراها وتحرّك فيّ أحاسيس معينة، وأدمج بين ما أجده مناسباً لتكون النتيجة جديدة ومعبرة. تأخذ مني بعض اللوحات أياماً طويلة وفي اوقات أخرى أنفذها في ساعات معدودة، وهذا يعتمد على مدى قوة الفكرة وقدرتي على تطبيقها من خلال أدوات ووسائط مختلفة.

اليوم تعيشين في دبي، فهل سنرى تأثيرها في لوحاتك قريباً؟
صحيح بدأت أتأثر بنمط حياتي في دبي، وهو سريع جداً حيث كل شيء سهل ومتاح، كما أني ازدت تركيزاً على الفن الرقمي، بينما في لبنان كنت ألجأ إلى الفن اليدوي، هنا فتحت لي أبواباً أوسع لاستخدام تقنيات أكثر تعقيداً وأشمل وفتحت لي مجالات عمل أكبر، أعتقد أني سأغوص في التقاليد الإماراتية، حيث أزور المناطق القديمة التي تحافظ على تراثها وثقافتها المتجذرة، لكي أعكس المزيد من المشاعر التي تحاكي أهل البلد.
هل تعتقدين أن للفن دور توعوي قوي في القضايا السياسية والمعيشية المهمة؟
بالتأكيد وخير دليل ما حصل في الحرب الأخيرة على لبنان، حيث أن معظم ما كان مؤثراً في الرأي العام العالمي، هي الموسيقى واللوحات التي تعكس ما يجري بشكل رمزي وفني، فالإنسان يتفاعل مع الصورة التي تحكي المعنى من دون رؤية مشاهد وصور الحرب القاسية. وقد نشرت الكثير من الصور التعبيرية خلال الحرب ولاقت التفاعل والانتشار.
تتعاملين مع مجلة هيا في عدد شهر نوفمبر المخصص لاكتشاف الذات والخروج من القواقع النمطية نحو العالم الواسع. كيف ستعكسين هذه الفكرة في أعمالك على صفحاتها؟
أعجبني الموضوع كثيراً لأني كنت أخاف من المخاطرات، فهي تخرجني من منطقتي الآمنة، إلا أني حين تجرأت وتشجعت تمكنت من إبداع أعمال أذهلتني وغيرتني، لذا سأعرض أعمالاً تحدتني وجعلتني أشعر أني قادرة على تخطي الصعوبات، سأشارك أعمالاً تُعرض لأول مرة وستكون مختلفة وذات معان عميقة جداً، وستكون الأساليب متنوعة والوسائط مختلفة، حيث العمل اليدوي مدموج بالفن الرقمي، لأبرز تعدد طبقاتي الفنية ومدى قدرتي على الذهاب بعيداً بأفكاري. بهذه الطريقة أؤكد أن كل شخص قادر على التطوّر بمختلف أشكاله ليصل إلى مستقبل أكثر إشراقاً ويفتح أمامه فرصاً أكبر.
ما هي طموحاتك ومشاريعك للفترة المقبلة؟
أحب أن أتعامل مع علامات تجارية عربية ومحلية، لأبيّن هويتنا وخصوصيتنا ومدى تميزنا، ولأظهر للأجانب حضارتنا الجميلة والراسخة في التاريخ، إنما بشكل عصري وحديث ويحاكي الشباب الراغب بالتغيير، ولكنه في الوقت نفسه معتز بتاريخه وثقافته وقيمه. كما أرغب بافتتاح غاليري خاص بي أعرض أعمال فنانين شباب، لم يجدوا حولهم الدعم أو التوجيه كما حصل معي في صغري، هكذا نتبادل المعرفة والأفكار ونتحاور لكي نرتقي بأساليبنا الفنية.
اقرئي المزيد: نور الحاج: أساس العمل بالنسيج طاقة اليدين المرتبطة بالذهن لإيصال فكرة فنية جديدة
















