كنت أرافق والدي الذي امتلك شركة استيراد وتصدير خارج الميناء، وأشاهد السفن وأحلم أن أتمكن في يوم ما من الصعود إليها واكتشافها من الداخل ومعرفة المزيد عن هذا العالم الذي أذهلني كطفلة صغيرة، ولكني لم أطمح في ذلك الوقت أن أصير قبطان أو أعمل في هذا المجال بل كنت منجذبة إلى المحاماة أو التدريس. حين تزوجت وأنجبت أولادي الثلاث وبات لديّ المزيد من الوقت لنفسي، عرفت أني أرغب بالمزيد وأريد دخول سوق العمل، لكي أثبت لأطفالي أن الحياة ليست سهلة ووردية، وأنه علينا أن نعمل ونسعى ونكد لكي نصل إلى ما نرغب به”.
بهذه الكلمات تبدأ القبطان البحري سحر راستي برواية قصتها، وتكمل “لم يتقبل أهلي بسهولة رغبتي بالعمل فأنا من عائلة محافظة، حيث يجب على الشابة أن تدرس وتتخرج وتتزوج لتنجب وتربي أطفالها، ولكن سحر لم تتبع هذا النظام، بل أخبرتهم بعد أن أتمت هذه الواجبات، أنها راغبة بالعمل وبالتحديد في موانئ أبو ظبي، وبدأت كمساعدة إدارية حيث التحقت لمدة سنة كفترة تدريبية، للتعرف على الموانئ والمداومة فيها، إلا أني لم أحب العمل المكتبي وشعرت كأني أنتقل من البيت حيث الأربع جدران إلى مكتب مشابه ذو طابع إداري بحت. رغبت باكتشاف الحياة البحرية عن قرب، وخلال وقت قليل تقريباً 6 شهور زادت حشريتي وأردت معرفة كل العمليات التي تحصل داخل الميناء”.
تستطرد سحر “خلال جولاتي بين مرافق العمل المختلفة، لفت نظري مكان صيانة الإنارة الملاحية التي تُدخل السفن، وقصدت غرفة المدير وقلت له إني راغبة بالتعلم، فكان جوابه بالحرف: “هذا المكان ليس للبنات، يمكن أن تأتي لتتعلمي ولكنك لن تعملي معنا”، هذا الرد استفزني وضاعف من حشريتي فبت آتي كل يوم وأخصص ساعة من دوامي لكي أكتشف طبيعة عملهم، واستمريت في القسم عندهم ما يقارب 3 شهور، وهو بالفعل علمني ولكنه حاول دائم أن يفهمني أن هذا المكان ليس للنساء، بعد 6 شهور اقتنع أخيراً وأعطاني وظيفة في صيانة العوامات، وكان العمل شاقاً ورأيت وقتها نجوم الظهر كما يقال، كنت أنزل من الفجر وأعمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس القاسية حيث درجات الحرارة تتعدى الأربعين، وكان المدير قاسياً جداً عليّ لأنه يسعى طوال الوقت لحثي على التوقف، ولكني اممتلكت العناد والإصرار لكي أستمر وأثبت له ولأهلي ولمجتمعي أني لن أفشل”.
بينت سحر بكل شجاعة أن النساء قادرات على خوض أكثر المجالات صعوبة، وهي تقول “المرأة التي تحمل 9 شهور كائن صغير ينمو ويكبر في أحشائها، وتنجب وتسهر لتربي أطفالها، لن يصعب عليها شيء، هذا بالفعل ما أردت إثباته للجميع، فالمدير الذي أخبرني منذ البداية باستحالة مسعاي، هو نفسه من وظفني لاحقاً، صحيح أنه قسى عليّ لكي يظهر ما في داخلي من طاقات، ولكنه سمح لي لاحقاً أن أخوض البحر وأختبر أجمل شعور يمكن لأي امرأة محبة لهذا المجال أن تعيشه. بالفعل من يقرر ويعزم ويضع من وقته وجهده في مجال، لا بدّ أن ينجح.. بدأت لكي أثبت ذلك لكل من حولي وخاصة لأولادي، وتوصلت إلى تحقيق ما رغبت به”.
باتت سحر أول قبطانة بحرية إماراتية، وكسرت كل القيود لتبحر وتقود السفينة في عرض البحر، تقول “قبل 10 سنوات كانت العادات والتقاليد أصعب، فلم يكن معتاداً رؤية امرأة تعمل بين الرجال وتكون القائد والمسؤول عنهم، ولكني أحببت أن أغيّر وأتأقلم وأفتح المجال لغيري من الشابات، وهذا ما نراه يحصل اليوم على أرض بلدي، فيوجد حوالى 70 فتاة يدرسون ليكونوا قبطان بحري، يحصلون على الدعم والتوجيه والتعليم المناسب من الجهات المعنية”.
تعتبر سحر أن مهنة القبطان البحري صعبة ولكنها مليئة بالأوقات الممتعة، “بالإضافة إلى تلقي التعليم المناسبة، تحتاج هذه المهنة إلى قدرات جسدية ونفسية خاصة، فالبحر متعب وصعب، كما تتطلب الغياب عن البيت لأيام، فالمرأة المتزوجة سيصعب عليها هذا الأمر بينما العزباء يمكن أن تذهب بمهنتتها إلى أبعد الحدود، فتتعرف على ثقافات مختلفة وتختبر مشاكل طارئة وتتعلم منها، وتتفاعل وتنسجم مع زملاء عمل مختلفين، كما أنها ستكتشف البحر وما أدراك كم هو جميل وممتع ومهدئ للأعصاب، كما أنه يغيّر كل نواحي الشخصية وكأنه عالم خاص له قواعده وأجوائه الرائعة”.
أسست سحر شركةSJR Group ، فلماذا خطت هذه الخطوة؟ تجيب “رغبت بمساعدة الشابات العاملات في المجال البحري على إيجاد عمل بشكل أسرع، فمثلاً هناك عائلات ترغب بقبطان فتاة لكي تخرج بناتهم بمفردهن في البحر، كما أن هناك مجالات تجارية واسعة أخوضها بعد أن اكتسبت المعرفة بهذا المجال من عمل والدي وإخوتي، لذا كانت الشركة الحل الأمثل لطموحاتي تلك”.
ولأنها أم قبل كلّ شيء فقد حاولت أن تعوَض أوقات غيابها، حول هذا الأمر تقول “تكذب من تقول إن الأطفال لا يتأثرون بغياب والدتهم، أو أنها قادرة على التوفيق 100% بين الوظيفة والأسرة، ولكني حاولت أن أتواجد معهم قدر استطاعتي، فإن فوتّ الفطور أكون حاضرة وقت الغداء أو العشاء، أعتقد أن رسالتي لهم والتي فهموها اليوم، كانت أعمق وأهم من التواجد الجسدي الدائم، فقد اكتشفوا أن أمهم قوية وأن الحياة تتطلب شجاعة وأن الوصول لا يحصل بسبب واسطة مثلاً، بل إن طريق النجاح صعب ويحتاج الاجتهاد والتضحية”.
تقدم سحر اليوم بودكاست ناجح بعنوان “الرؤية صفر”، وتحدثنا عنه “كان التفكير بالبودكاست امتداداً لطموحي الأول بخوض النقاشات والتعلم والاكتشاف، وأنا أسست شركة في القطاع البحري، وهذا الأمر زاد معرفتي برواد أعمال ناجحين فيه، كما أن جميع من حولي شجعوني لأنهم رأوا لديّ قدرات في التحاور وإظهار ما في داخل الشخص الذي أتحدث معه، لذا كانت فكرة البودكاست لأنه منتشر حالياً بين الشباب على وسائل التواصل، فهو أفضل وسيلة لتعريف الجيل الجديد على الأشخاص الذين حققوا النجاحات في المجالات البحرية، ولكنهم ليسوا معروفين بشكل كبير، وبعدها توسعت وصرت أختار الضيوف من مختلف المجالات، لأنه للأسف وسائل التواصل تطالعنا بذات الأسماء والوجوه، لكثرة تواجدها على الرغم من ضعف محتواها أحياناً، لذا وجدت من مسؤوليتي أن أسلط الضوء على مواهب مهمة وقامات كبيرة من كل القطاعات، لا نعرف قصصها ولكنها بالتأكيد جميلة جداً ومؤثرة وملهمة ودافعة لنا لكي نتبع شغفنا ونحقق المزيد من النجاحات”.
تفتخر سحر بكونها ابنة الإمارات وتعمل بشكل دائم على تقديم أفضل صورة عن نساء بلدها، وتسعى لتقديم المزيد لرفعة اسمه ودعم أبناءه، وتقول “كل مقيم أو مواطن موجود في الإمارات محظوظ، فالدعم الذي يتلقاه غير محدود والفرص الموجودة تكفي الجميع، كما يوجد تسهيلات للانطلاق في أي مشروع، فنحن نقود صناعة المستقبل ونموّل المشاريع والأفكار الواعدة، ونقدم كل ما باستطاعتنا لكي ينعم من يعيش على أرضنا بمستقبل أفضل وحياة آمنة وسعيدة”.
تضيف “أنا اليوم لست موجودة وفاعلة ومؤثرة لمجرد أن أكون ناجحة ليومي هذا، بل أرغب أن أساعد غيري من الجيل الجديد، وألهم النساء من مختلف الجنسيات، بأن يثابرن ولا يستسلمن أمام الصعوبات، بل تحدين ويملكن الإصرار للاستمرار، حتى لو كانت الطريق صعبة، فالنتيجة النهائية تستحق السعي الدؤوب”.
تختم سحر “نحن في الإمارات لا نرضى إلا بالرقم واحد، وأنا بالتحديد أشبه بلدي بهذا الأمر، فلا أعرف الهدوء أو الراحة، وقريباً سأطلق أول منصة في العالم تجمع البحارة الذين يبحثون عن الوظائف، وقد فكرت بهذا الأمر لصعوبة البحث وإيجاد وظيفة مناسبة في هذا المجال، وأترقب إطلاقها قريباً”.
اقرئي المزيد: موزة الحمراني: نحن اليوم في وضع فريد ويدعم طموحاتنا ولدينا الكثير لنفخر به كإماراتيات… فاسعين واستفدن