مقابلات

سحر خلخليان: يحمل العمل باليدين الذكريات لذا فهو امتداد للروح وفعل راق لا يوازيه شيء

الفن بكلّ أشكاله نوع من أنواع التعبير عن الذات والتواصل مع الآخر، وحين يكون العمل يدوياً فإنه يعكس روح وشغف وحب كبير للعمل لدى من يقدمه، فتتحوّل اليدين إلى وسيلة للخلق والإبداع، في شكل رائع يعكس الرفاهية الحقيقية، ويتجلى في قطع فريدة لا يمكن لأي مصنّع مهما بلغت قوته الإنتاجية وتقنياته الحديثة أن يوازيها جمالاً وتأثيراً. تعرفي على 4 فنانات شابات يعملن بحب وقوة لإبراز مواهبهن بشكل يحاكي الجيل الجديد ويلبي رغبته في التميّز والفرادة والأصالة، والختام مع سحر خلخليان.

تأثرت الفنانة التشكيلية Sahar Khalkhalian بالكثير من الأحداث والمشاعر والمواقف التي خولتها أن تكون اليوم من أهم الفنانات المعاصرات على الساحة العالمية والمحلية، حيث  تقيم حاليًا في دبي، وتستكشف في أعمالها مواضيع مؤثرة ومؤلمة، منها الانفصال والعزلة وفقدان الإنسانية والهوية. تركت بلدها إيران لتهاجر هي وشقيقتها إلى ألمانيا في الثالثة عشرة من عمرها، حيث واجهت فقدان الهوية والوحدة، لتُركّز في لوحاتها على التعبير عن هذه المشاعر للمشاهد، والتي يصعب التعبير عنها بالكلمات وحدها. ترسم Sahar  فقط عندما تشعر بإلهام حقيقي؛ سواءً أكان ذلك في سعادة غامرة أم في حزنٍ عميق. من خلال العمل فقط في هذه الأوقات، تُحافظ خلخاليان على أصالة أعمالها، مُجسّدةً المشاعر التي تُحاول التعبير عنها كما تشعر بها.

تقول “وُلدتُ في منزلٍ كانت جميع جدرانه مغطاةً بلوحات جدي. في صمتٍ وعزلة، كنتُ أُحدّق في كلٍّ منها لأكوّن مخيلتي الخاصة. مع أول مأساةٍ كبيرة اختبرتها في حياتي وهي انفصال والديّ، ثم هجرتي في سنٍّ مبكرة بعيداً عن بلدي، أصبح الرسم ملاذي: شعرتُ أن عالمي مُحددٌ وواضح أكثر من خلاله. لم أستطع التحدث بالكلمات، لكنني استطعتُ إفراغ كل ما في نفسي من خلال الرسم، فقد كان بمثابة دعوتي والطريقة الأمثل للتعبير عن مكنوناتي.. كان كل خطٍّ ولونٍ أرسمه يمنحني السلام. ومن خلال شيء صعب ومشاعر قاسية اكتشفتُ الجمال والقدرة على الإبداع، تماماً مثل الوعاء الياباني الذي ينكسر ويُرمّم بالذهب، فيزداد قيمة”.

جيل اليوم يسعى إلى البساطة والصمت والمشاعر التي تتواصل معه وتحركه

رصدت Sahar  خلال سنوات عملها الطويلة في المجال الإبداعي تغيّرات في الذائقة الفنية، وحولها تقول “في السنوات الماضية، رأيتُ نظرة الناس إلى الفن تتغير بشكلٍ كبير. في السابق، كانت الأعمال التقليدية والكلاسيكية تجذب الانتباه بشكلٍ أكبر، وكان الناس يبحثون عن الجمال المألوف. لكن جيل اليوم يسعى إلى البساطة والصمت والمشاعر التي تتواصل معه وتحركه، ففي هذا العالم الصاخب، يتوق الجميع إلى مساحات من الهدوء والمعنى الأعمق، لذا لم يعد الفن مجرد أداة لتزيين المنزل أو الأماكن العامة المميزة، بل صار طريق للعودة إلى الذات”.

عن عملها اليدوي لإنتاج أعمال فنية ذات معنى وبُعد، تحدثت Sahar عن جمال وأهمية الحرف اليدوية في خلق فن أصيل لا مثيل له، وقالت “تحمل الأيدي ذكريات؛ إنها امتداد للروح. عندما أضع الحبر أو اللون على الورق أو القماش بيدي، يصبح العمل فريدًا من نوعه. إنها لحظة وحدة، كمفهوم “وابي سابي” الياباني، الذي يجد الأصالة في النقص والزوال. كل حركة يد تعكس العالم الداخلي للفنان، وهو شيء لا تستطيع أي آلة التقاطه. هذه هي الأصالة الحقيقية: أن تكوني حاضرة تمامًا عندما تمتزج اليد بالروح”، وأضافت “لمسة الفنان هي الحضور في اللحظة وهو أمرٌ غائبٌ في الإنتاج الصناعي. يحمل كل عملٍ فنيٍّ آثارًا من أنفاس الفنان، وتوقفاته، وتأملاته، وأفكاره التي تتصارع داخله في هذا الوقت بالذات. هذا الحضور يجعل العمل استثنائيًا، فعندما يُبدع شيءٌ ما بصبرٍ، طبقةً تلو الأخرى، مدعومًا برؤيةٍ عالمية، فإنه يُصبح بطبيعة الحال “رفاهية”، فبالنسبة لي ليست الرفاهية إسراف في صرف المال، بل تكمن في الندرة والمعنى الحقيقي لما نراه ونلمسه ونتفاعل معه”.

أرسم عند الفجر أو الغسق عندما يكون العالم هادئًا.. تنبع أفكاري في صمتٍ وتأمل لا في ضجيج

تحب سحر أن ترسم حين يكون العالم هادئاً، حيث تجد نفسها وحيدة مع أفكارها، فلا تتأثر بأي عوامل أو منغصات خارجية، تقول “غالبًا ما أرسم عند الفجر أو الغسق، عندما يكون العالم هادئًا.. تنبع أفكاري في صمتٍ وتأمل، لا في ضجيج. أمارس اليوغا والمشي لتنظيم إيقاع ذهني، ثم تجد يداي طريقهما الخاص، تنبع أفكاري أيضًا من ملاحظة الحشود، ومشاهدة كيفية تطور وتغيّر العمارة، كما أستلهم من ذكرياتي خلال السفر، والقراءة والكتابة حيث أحوّل الكلمات والعبارات التي تلهمني إلى صور على الورق”.

تكمل “أقرب عمل إليّ هو لوحة تصويرية لسوق، تتناول الروابط والفوارق بين الناس. دائمًا ما أنجذب إلى مواضيع الحشود، والمجتمع، وكيفية التعايش فيه. بالنسبة لي، يتشكل الحب في إطار الترابط، وأُقدّر هذا الجانب السردي بعمق. بخلاف التوجه السائد اليوم في تعريف اكتشاف الذات من خلال العزلة، أعتقد أن اكتشاف الذات الحقيقي يمكن أن يُبنى في إطار المجتمع ومن خلال الحب الذي يجمع بين الناس من دون مبررات منطقية”.

تدور العديد من أعمال Sahar حول العزلة والانفصال، فتبدو أحيانًا قاسية وقوية، بل صادمة. وقد حدثتنا عن سبب اختيارها لهذا النهج وعن الصدمات أو القضايا التي أثرت عليها لترغب بالتعبير عنها بهذا الشكل، فقالت “الهجرة ووتيرة العالم الرقمي السريعة تُقرّبنا وتُباعد بيننا في آنٍ واحد، وأنا أُصوّر هذا القرب من خلال المسافة، ليس للتأمل في المرارة والقسوة والجفاء، بل للرؤية والشفاء من هذه المشاعر الصعبة.على الإنسان أن يدرك أن الحياة ليست دائمًا سهلة وجميلة، فالمعاناة جزء من دورتها، لذا تُظهر أعمالي كيف يُمكن للمرء أن يرى المعاناة ويتقبلها ويتجاوزها”.

سألناها: هل ينبغي للفن والفنانين أن يلعبوا دورًا في رفع مستوى الوعي في المجتمع حول قضايا الحياة المختلفة، أم تُفضّلين أن يكون دورهم إبداعيًا وتعبيريًا بحتًا، فقالت “كلاهما. فأنا عندما أكشف الحقيقة من خلال اللون والشكل، أعبّر عن نفسي وفي الوقت نفسه أوقظ عقل المُشاهد. يُمكن للفن أن يكون ملاذًا وملتقى للحوار وللتغيير الصغير ولكن الحقيقي. أؤمن بالعلاج بالفن وورش العمل التشاركية، حيث يصبح الفن مساحةً للشفاء والوعي.

كل أرض جديدة أعيش فيها تُعمّق رؤيتي للزوال: أتعلم أن كل شيء يزول وأن كل ثقافة هي مرآة جديدة للحقيقة

حول مدى تأثرها بجذورها الإيرانية ونشأتها في دول مختلفة وانعكاس ذلك على فنها، قالت “تتجلى جذوري الإيرانية وما رأيته في طفولتي من أعمال البلاط والمنمنمات والشعر في ألوان وإيقاعات أعمالي. أما من ألمانيا التي كبرت فيها، فقد تأثرتُ بالانضباط والدقة، ومن كندا، بالانفتاح والقرب من الطبيعة.. والنتيجة كانت ابتكاري للغة شخصية تتنقل بين الأصالة والمعاصرة”.

ولأنها اليوم تعيش في العالم العربي وتحديداً في دبي، فقد حدثتنا عن التأثير الذي أحدثته هذه النقلة على مسارها الفني وطريقة تعبيرها عن أفكارها، “كل أرض جديدة تُعمّق رؤيتي للزوال. أتعلم أن كل شيء يزول، وأن كل ثقافة هي مرآة جديدة للحقيقة. منحتني دبي نورًا جديدًا: أشجارها الدائرية، ومياهها الفيروزية، وثقافة ضيافتها. هذا أدفأ لوحاتي، وملأ أقمشتي بعبيرٍ زكي، حيث دفعني المجتمع النابض بالحياة هنا نحو المزيد من المشاريع المجتمعية”.

سألناها: من وجهة نظرك، هل تغير معنى الرفاهية بالنسبة للجيل الجديد، وهل لم يعد يقتصر على الجوانب المادية للحياة؟ فأجابت “الرفاهية اليوم هي الوقت، والصمت، والصحة، والحرفية. إنها الاهتمام الكامل بشيء واحد: شيء دائم، مُنتج بأخلاق، ويجلب الرفاهية، وليس مجرد شيء براق وثمين. بالنسبة لجيل اليوم، تعني الرفاهية صمتًا داخليًا ولحظات خالية من القلق، لم تعد تتعلق بالممتلكات، بل بجودة الوجود والحضور في اللحظة”.

أضافت “بالنسبة لي، العيش الجيد يعني عيش اللحظة الحالية وإيجاد التوازن بين الجسد والعقل والروح. ممارسة الرياضة اليومية، وتناول طعام صحي بسيط، والعمل الجاد، وقضاء الوقت مع العائلة، والمساهمة في المجتمع، كلها أمور تجلب لي السكينة. هذه البساطة هي أعمق أشكال الرفاهية. وأنا من خلال فني، أرغب في خلق مساحاتٍ يتوقف فيها الناس، ويصمتون، ويشهدون على حقيقة اللحظة التي لا تنتهي، هذا بحد ذاته فعل رفاه يخصني ويحاكي مجتمعي أيضاً”.

تختم Sahar حديثها بالقول “ستستمر مشاريعي القادمة على نفس النهج: التركيز على الحياة الاجتماعية والحشود البشرية. لطالما اهتممت بالمواضيع الاجتماعية ومعاني التواجد مع الجماعة، سواءً كنت أرسم عن الهجرة، أو ما بعد جائحة كورونا، أو عن الحرب والجنود. الآن، أكثر من أي وقت مضى، أرغب في العودة إلى الحياة الاجتماعية. أعشق التعايش فهو شيءٌ أشبه بالحياة القبلية التي تربط الناس معًا. هذا الشغف جزءٌ من حياتي الشخصية، حيث أشعر دائمًا بالطاقة والحيوية داخل الأسرة والمجتمع. في أعمالي الجديدة، أريد أن أجسّد هذا الشعور بالترابط والتجربة الإنسانية المشتركة”.

اقرئي المزيد: نورا زيد: الفن يسمح للناس بالترويّ والتأمل وهذا عمق معنى الرفاهية

المجلات الرقمية

قد يهمك أيضاً

اشترك في صحيفتنا الإخبارية