مقابلات

سارة المازمي: أرسم عن الحب والجمال والدهشة والامتنان للحياة

كضوء الشمس الساطع والقوي والمؤثر تبرز أعمال الفنانة التشكيلية الشابة سارة المازمي، نابعة من شغفها العميق بالإنسان وبالتجربة الإنسانية بكل ما تحمله من حب وجمال وروحانية وتساؤل. عرضت أعمالها في عدة فعاليات مهمة داخل الإمارت، منها “بيت الحكمة” في معرضها “تحت عين الشمس”، كما شاركت في أسبوع الموضة في دبي، وهي تحمل الكثير من الأفكار الجديدة والمليئة بالإبداع. اخترناها لتكون معنا في عدد نهاية العام المخصص للبيئة والاستدامة، فتعرفي أكثر على أفكارها الفنية في هذا اللقاء.

هناك وضوح واتساق وفكر واضح في لوحاتك، إلى أي مدى تشبهين بصفاتك الداخلية الفن الذي تقدمينه؟ 

لا شكّ أن هناك شبهًا حقيقيًا بيني وبين فني. لأن عملي الفني في النهاية هو توثيق لحياتي ولعلاقتي مع الجمال ومع التجربة الإنسانية. وأشعر فعلًا أنه كلما خلقت شيئًا، اكتشفت شيئًا في نفسي أيضًا. هناك جملة أحبها تقول إن عملية الإبداع عملية تبادلية فأنت تخلق العمل، والعمل يخلقك في المقابل. وكلما رسمت، كلما فهمت نفسي أكثر.. أنا أرسم عن الحب، عن الجمال، عن الدهشة، عن الامتنان للحياة… وإن كانت هذه الأشياء تشبهني، فسأكون سعيدة جدًا أن يعكس فني هذه الجوانب من ذاتي.

كيف وقع اختيارك على “الشمس لتكون محور أعمالك؟

فلسفتي الفنية تتمحور حول فكرة الشهادة  witnessingأو فعل المُشاهدة  to witnessأي أن نرى وأن نُرى، بمعنى كيف أننا شهود على هذا العالم، وكيف أننا شهود على بعضنا البعض، حاجتنا الإنسانية لأن نرى ونُرى من الآخرين، وكيف نشعر بأن هناك حضورًا أكبر يرانا أيضًا. أؤمن أن هذه الديناميكية: أن نُشاهد وأن نُشاهَد، تشكّل جزءًا أساسيا من التجربة الإنسانية.

أما بالنسبة إلى الشمس، فقد ظهرت منذ بداياتي في الرسم بشكل عفوي، ومع الوقت أصبحت مثل ختم صغير أضعه على اللوحة وكأنني أقول: أنا شهدت هذه اللحظة. ومن هنا أصبحت الشمس في أعمالي رمزا أساسياً. أستخدم الشمس كـ رمز لفعل الشهادة أو للشاهد الأزلي، الذي نعيش تحت ضوئه جميعًا،  نمرّ بتجاربنا الإنسانية المختلفة تحت شمس واحدة. فتصبح أعمالي الفنية شكل من أشكال التوثيق، توثيق لتجاربي، ولحظات الدهشة والحب، الانبهار والامتنان، التساؤل و الروحانية التي أعيشها. توثيق لنظرتي للحياة حيث أراها كالهدية، وكل ما أبتكره هو محاولة للاحتفاء بهذه الهدية، وتوثيقها كشاهد لهذه التجربة العظيمة.. تجربة الوجود.

في الفترة الأخيرة أصبحت متعلّقة جدًا بفكرة الجمال كتجربة إنسانية مقدسة. أؤمن أن الجمال هدية كونية، وتجربة فريدة، توقظ فينا شيئًا أعمق من اللغة والتفسير. تأثّرت كثيرًا بكتاب The Invisible Embrace: Beauty، خصوصًا بجملة تقول: “الجمال بابٌ روحي”. وهذه هي الفكرة المحورية في أعمالي الأخيرة، التي أوثق فيها لحظات الجمال التي تستوقفني في تفاصيل الحياة اليومية في الإمارات: الضوء الملّون من النوافذ الزجاجية القديمة، النباتات والطبيعة المحلية، الملامح المعمارية التقليدية، واللحظات العابرة.

كيف بدأ حبك للرسم وهل سعيت إلى تطوير موهبتك عبر الدراسة أم أردتها أن تكون عفوية وصادقة تعكس أحاسيسك وأفكارك الخاصة بشكل خام ومباشر؟

أنا فنانة عصامية، تعلّمت الرسم بالممارسة، ولا أستطيع أن أحدد لحظة واحدة بدأ فيها حبي للرسم، ولا أذكر فعليًا كيف بدأ. أشعر أن الرسم كان جزءًا من حياتي منذ طفولتي، شيء حملته معي دائمًا بشكل طبيعي. حتى خلال سنوات دراستي للهندسة الصناعية، كان الفن موجودًا. أحيانًا حاضرًا بقوة، وأحيانًا في الخلفية، لكنه لم يختفِ يومًا. بعد تخرّجي بدأت الفرص تظهر أمامي بشكل أوضح، من خلال معارض ومشاريع ومساحات جعلتني أقترب من فني أكثر، وهنا حدث التحوّل. لأول مرة شعرت أن بإمكاني أن أمارس الفن بحضور أكبر، ليس فقط كهواية شخصية، بل كمسار مهني. هكذا دخلت بشكل أعمق في المجتمع الفني: بدأت بإعطاء ورش العمل، وشاركت في إدارة وتنظيم المعارض والبرامج الثقافية، خصوصًا في “بيت الممزر”. واكتشفت شغفي في أن أكون جزءًا من خلفية المشهد الفني: بناء المعارض، دعم الفنانين، وصناعة المساحات التي تجعل الفن ممكنًا وحيًا ومؤثراً.

كيف ساعدتك خلفيتك عن الهندسة الصناعية في بناء أسلوبك الفني الفريد؟ وكيف تصفين هذا الأسلوب؟

دراستي الهندسة الصناعية، لم تؤثر على أسلوبي البصري مباشرة، لكنها أثرت على الطريقة التي أعمل بها. أظن أن الهندسة ظهرت في ممارستي بشكل غير مقصود: في ترتيب الأفكار، في تنظيم الوقت، في التفكير المنهجي حين أبدأ مشروعًا جديدًا. بالتالي ليس لها تأثيرًا جماليًا بقدر ما تؤثر على العملية الإبداعية نفسها.

كيف ترصدين تلقي الآخر لأعمالك ووصوله لفهم فكرتها؟ هل يهمك أن يفهمها كما رغبت، أو تتركين له مهمة التفسير والتفاعل؟

هذا الموضوع كان دائمًا صعبًا بالنسبة لي، فأنا لطالما تساءلت: هل يفهم الناس ما أريد قوله؟ هل يصل الشعور الذي أضعه في اللوحة كما هو، أم أنه يحتاج إلى شرح؟ ومع الوقت بدأت أركّز أقل على هذه الأسئلة، وأكثر على متعة الإبداع نفسها، وعلى الإحساس بأن العمل سيصل إلى قلوب من يحتاج إليه بطريقة ما. ولحسن الحظ، شعرت في السنوات الأخيرة أن الفن بدأ يجد طريقه إلى الناس المناسبين… أشخاص التقطوا الفكرة أو الشعور، أو رأوا في العمل شيئًا يمسّهم هم شخصيًا. وأحب أيضًا أن أرى كيف يفسّر كل شخص العمل بطريقته، أحيانًا يقولون أشياء لم أفكر بها، لكنها حقيقية بالنسبة لهم، وهذا ما يجعل الفن حيًا ومفتوحًا للتفسيرات المختلفة.

كيف تختارين الوسائط التي ستساعدك على ايصال فكرتك الفنية بصدق وقوة؟

الرسم هو وسيلتي الأولى والأقرب في التعبير، لكن في الفترة الأخيرة أصبحت أكثر تجريبًا: السايانوتايب، والزجاج الملوّن، وغيرها. أختار الوسيط بشكل حدسي جدًا… إذا شعرت بالفضول تجاه مادة معيّنة، أجربها. السايانوتايب كانت تجربة مميزة بالنسبة لي لأنها تعتمد على الشمس نفسها، تحوّل الضوء إلى أثر ملموس، وكأنه طريقة لتخليد لحظة باستخدام الشمس، وفيه شيء طقسي. أما الزجاج الملوّن، فقد جذبني دائمًا بصريًا، وبدأت البحث عنه فتعرفت على تاريخ الزجاج في أماكن العبادة وكيف يمكن لضوء الشمس حين يمرّ من خلاله أن يخلق إحساسًا بالقداسة أو الحضور الإلهي. ومع عملي الأخير عن الجمال وقدسيته وعن التجربة الروحية في مواجهة الضوء، شعرت أن الزجاج الملوّن كان الوسيط الأنسب لي في هذه المرحلة. 

هل تعتبرين أن رسالة فنك تكمن في الدعوة إلى إدراك الترابط العميق بيننا كأفراد وبين ومحيطنا؟

لا أحب أن أقدّم عملي كرسالة مباشرة أو كشيء يريد أن يعلّم أو يوجّه. أنا أقدم الفن لأنني مفتونة بالحياة، وبكل ما نحمله من مشاعر وتجارب صغيرة وعميقة. أرى الحياة كهدية، وكل لوحة بالنسبة لي هي محاولة للاحتفاء بهذه الهدية، لتوثيق الأشياء التي أشهدها: الحب، الروابط الإنسانية، الجمال، لحظات الدهشة والامتنان. إن استطاع عملي أن يوقظ في أحدهم شعورًا بالحب أو الارتباط أو الجمال أو الامتنان… فهذا بالنسبة لي أكثر من كافٍ.. أريد لفنّي أن يكون احتفالًا بالحياة، لا أكثر ولا أقل.

حدثينا عن أهدافك من المشاركة في المجتمع الفني الإماراتي من خلال قيادة ورش عمل فنية وعضويتك في “رسّامو المدن الشارقة”. 

بجانب ممارستي الفنية، اكتشفت في السنوات الأخيرة شغفاً بالمشاركة في المجتمع الفني من زوايا متعددة، فأنا أحب أن أكون جزءًا من المشهد الفني من جهتين في آن: واحد كفنانة، والثاني كشخص يعمل خلف الكواليس في صناعة هذه المساحات. 

عملي مع “بيت الممزر” كان نقطة تحوّل لي، فقد أشعل داخلي شغفًا حقيقيًا بتنظيم المعارض، وإدارة البرامج الثقافية، وبناء مجتمع فني نابض ومُلهِم. عملي أيضًا في مجال دمج الفن والتصميم في المشاريع المعمارية في شركة بالنسبة لي متنفس ابداعي يمنحني مساحة لأرى الفن من منظور جديد وكيف يمكن للفن أن يصبح جزءًا من بيئة الناس اليومية، كذلك أحببت مؤخراً تجربتي في تعلّم التقييم الفني، فهي أشعلت فضولي للغوص أكثر في هذا الجانب المهم من المشهد الفني. أما عن أهدافي من هذه المشاركات فهي لأنني أحب الفن وأرغب بالتعرف على الفنانين، وأحمل امتنانًا عميقًا لوجودي في هذه الغرف التي تجمع هذا القدر من الإبداع والمبدعين. يسعدني أن أساهم، ولو بجزء صغير، في دعم هذه المساحات وأن أكون جزءًا من بناء هذا المشهد، وأتطلع إلى أن أكون جزءًا من الحركة الفنية في الإمارات من منظور فنانة وأيضاً كمساهمة في صانعة المشهد أيضاً.

محور العدد الحالي لمجلة هيا هو الاستدامة والحفاظ على الكوكب، كيف يساهم الفن الواعي برأيك في هذا الأمر؟ كيف ستعكسين فكرة العدد من خلال أعمالك الفنية؟

أرى الاستدامة مرتبطة تمامًا بالطريقة التي أنظر بها إلى العالم.. حين تنظرين إلى الحياة كهدية، من الطبيعي أن تحبيها وأن ترغبي في حمايتها. لا يمكن أن تشعري بالامتنان تجاه العالم دون أن تولدي رغبة في العناية به. وهذا ما عبّرت عنه الكاتبة روبن وول كيماير حين قالت إننا عندما نتعامل مع العالم كهدية، نصبح أكثر رقةً معه، ونشعر برغبة في ردّ الجميل. الفن علّمني الملاحظة ومع الملاحظة يأتي الامتنان، ومع الامتنان يأتي الإحساس بالمسؤولية، بالرغبة في حماية هذا الجمال وصونه. حتى الكتابة اليومية (الـ journaling) عمّقت هذا الشعور بداخلي؛ تدوين اللحظات التي لمست روحي جعلني أكثر وعيًا وحساسية وأكثر حبًا للعالم من حولي. أعتقد أن هذا الوعي هو جوهر علاقتي بالاستدامة: أن نحب العالم بما يكفي لنحميه، وأن نرى الجمال بما يكفي لندافع عنه، وأتمنى أن أعكس بأعمالي مع مجلة هيا رؤيتي الخاصة للاستدامة وأن تصل أفكاري إلى الآخر بشفافية ووضوح.

ما هي مشاريعك القادمة للسنة الجديدة، هل يوجد مشروع معرض فردي؟ وما هي الأفكار الفنية التي تحبين استعرضها في أعمالك مستقبلاً؟

أشعر بالكثير من الحماس والرغبة في العمل والابتكار أكثر. أريد أن أواصل استكشاف الزجاج الملوّن، لأن هذا الوسيط أصبح قريبًا من قلبي جدًا في المرحلة الأخيرة. وأنا متحمّسة بشكل خاص لعرض قطعة الزجاج الملوّن التي عملت عليها لأكثر من عام وهي قطعة تُشبه القاطع أو الـ room divider، مستوحاة من لحظة جمال شهدتها في الشارقة، ومُستلهمة أيضًا من نوافذ البيوت الإماراتية القديمة. ستكون هذه القطعة العمل الأول ضمن مجموعة جديدة أعمل عليها، وأشعر أنها تمثّل بداية مرحلة جديدة في ممارستي.. أتطلّع لعرضها ومشاركتها مع الناس، والاستمرار في صنع المزيد من الأعمال الفنية المبتكرة والمؤثرة.

اقرئي المزيد: عليا بساط: المخاطرة جعلتني أكثر جرأة وإبداعاً في أعمالي الفنية

المجلات الرقمية

قد يهمك أيضاً

اشترك في صحيفتنا الإخبارية