بعد مسيرة مهنية مميزة في مجال الهندسة وريادة الأعمال، اتجهت رايسا مريم راجان، نحو الفن المستدام وقامت بتقديم تركيبات فنية ضخمة، مثل مشروع اللوحة الذي يبلغ طوله 51 مترًا في أبو ظبي، إلى جانب أعمالها الفنية المصنوعة من الحبال التي عرضت في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، كما أنها دخلت موسوعة غينيس حين قدمت درساً فنياً أمام أشخاص من مجموعة واسعة من الجنسيات. تحمل الفنانة اليوم مسؤولية رفع الوعي بالاستدامة في المجالات الفنية والثقافية وقد تعرفنا أكثر على عملها في هذا اللقاء.
لماذا قررتِ تغيير مساركِ المهني نحو الفن المستدام. كيف اتخذتِ هذا القرار الكبير؟
كنت أعمل في الاستديو في منزلي خلال أحد الليالي على مشروع فني كبير، واعتدت استخدام الراتينج وهي مادة صمغية يتطلب استخدامها وضع قفازات وقناع لعدم التأثر بالمواد التي تطلقها، وحينها فكرت بأني آخذ كل هذه الاحتياطات بينما ولديّ نيام، وربما يتأثران بالرائحة الكيميائية للمواد التي أستخدمها، وستؤثر سلباً عليهما. حين دخلت سريري لم تفارقني الأفكار حول هذا الموضوع، الذي لم يكن يخطر لي سابقاً، فأنا أيضاً أؤثر سلباً على البيئة وبالتالي على باقي البشر وكل الأشكال الحيّة حولنا. أعتبر ما حدث بمثابة الصحوة التي جعلتني أغيّر طريقة عملي الفني، وبتّ أبحث عن حلول أخرى تخوّلني الاستمرار بعملي الفني ومحاولة الحفاظ على البيئة في آن.
هل من السهل على الفنان أن يُحوّل أدواته ومواده ورؤيته الفنية نحو خيارات صديقة للبيئة؟
الفن المستدام بالنسبة لي هو لغة صامتة تتحدث من خلال التعبير لتخاطب الآخر، وأردت من خلال فني أن أتحدث عن البيئة، وأرفع الوعي حول أهمية الحفاظ على الطبيعة، وما الذي تقدمه لنا وكيفية حفاظنا على ثرواتها، وكان عليّ أن أجد وسائلي من محيطي. في البداية لم يكن الأمر سهلاً، بل سخر كثر منّي لأني كنت أبحث عن وسائط مستدامة، ولكني اليوم استطعت أن أثبت وجهة نظري حيث ازداد التقدير لعملي، وتعمّق التفكير بأهمية تأثير الفن على البيئة وعلى مستقبل الأجيال القادمة.

كيف اكتسبتِ معرفتكِ بالخيارات الصديقة للبيئة؟ وكيف تعلمتِ تقنيات استخدامها؟
الاستدامة بدأت مع أجدادنا الذين عاشوا بالقرب من الطبيعة، لذا كان عليّ البحث عن وسائط في الأرض، تجمع بين التراث الذي يعكس تاريخنا الكبير كبشر، وبين الحداثة التي تميّز عيشنا اليوم، بحثت عن وسيط يحاكيني كامرأة، وصرت أصنع تراكيب مستوحاة مما أستخدمه في المطبخ، وتحديداً البهارات والتوابل، في الوقت نفسه كنت أدير حملة لإنقاذ المحيط من التلوث الحاصل فيه، وحينها بدأت أستكشف وسائط متنوعة منها الرمال التي ألهمتني لتحويها واستخدامها بشتى الطرق والألوان، بعدها وصلت إلى الحبال وكانت وسيطي الأكبر الذي استخدمته للتعبير عن العديد من أعمالي الفنية، فأنا أجمع القصص والرسائل التي أريد إيصالها من خلال الحبال، لأقدم عملاً فنياً فريداً يحاكي مشاعر الآخر ويحركه وفي الوقت نفسه يجعله يعي كيفية وأهمية الاستفادة من موارد الطبيعة. هذا العام طرحت مجموعة جديدة بعنوان Zarute جمعت فيها بين الحبال والزري وهو خيط حريري برّاق، لأوصل رسالة حول ثراء وتنّوع ما يتواجد حولنا في هذا الكون من ثروات، ففي النهاية الطبيعة تؤثر في وجودنا، فنحن نستيقظ كل يوم ونتنفس الهواء النظيف بحرية بسببها.
هل للنساء بشكل خاص دور في الحفاظ على الطبيعة والبيئة؟
أؤمن بذلك بشدة، فالطبيعة تسمى: Mother Nature، وقد أطلقنا عليها هذا الاسم لأنها تعطي الحياة مثلنا نحن النساء تماماً، وبالنسبة لي فما حركني تجاه الخيارات المستدامة هو تفكيري بأولادي وعيشي للأمومة بكل مشاعرها القوية، لذا أعتقد أنّ من واجبنا كنساء أن نربي جيلاً مراعياً للطبيعة، ونرفع صوتنا عالياً للحفاظ على البيئة.

أخبرينا عن جماليات استخدام المواد الطبيعية والعمل اليدوي، لابتكار أعمال فنية مبتكرة وفريدة من نوعها؟
يكمن جمال استخدام المواد الطبيعية في القدرة على الابتكار والاستمتاع خلال العمل بالقوام المختلف والحي والأصيل الآتي مباشرة من الأرض، فنحن نستكشف ولا نعرف النتيجة التي سنحصل عليها، بالنسبة للحبال التي أستخدمها فهي مادة قاسية وليس من السهل التعامل معها، وهي متعبة جسدياً ولكنّ الجمالية تكمن في هذا التحدي، وهنا سأعطي مثالاً عن معرض فردي قدمته في مؤتمر الأطراف 28 في الإمارات العام الفائت، باستخدام ألياف جوز الهند لتجسيد الثقافة الإماراتية، فقد كان العمل صعباً ومؤلماً، وتطلب وقتاً طويلاً، وكان لديّ إصابة في إصبعيّ، ولكني قررت أن أستمر وأعطي بكلّ طاقتي لأني رأيت الناتج الأكبر، والتأثير الذي سيحدثه في الحضور، وكان المعرض فخراً أعتزّ به في مسيرتي المهنية. لذا بالتأكيد فإن الفن اليدوي والمستدام أصعب ويحتاج إلى وقت أطول ومجهود مضاعف، ولكن نتيجته تستحق كل العناء، والإحساس الذي يولده لدى الفنان رائع واستثنائي.
هل هناك اهتمامٌ عامٌ بالفن المستدام؟ كيف تُقيّمين جهود الإمارات في دعم المبادرات المستدامة؟
ازداد الاهتمام بالفن المستدام في السنوات الخمس الأخيرة وتحديداً بعد انتشار كوفيد، وفي الإمارات نرى الدعم الرسمي والخاص موجّه بشدة نحوه، كما أن جامعي الفنون باتوا من المتحمسين للتعرف على وسائطه، وأرى أن من واجبي في الفترة المقبلة تشجيعهم على فهم أعمق له ونشره بين الجمهور الأوسع.
نرى اليوم المدارس تنشر التوعية حول أساليب العيش المستدام، وهذا أمر مبشّر لأنه يخص الأهل تماماً كما يتعلق بالطلاب، فهو يزيد من حشريتهم للتعرف على مختلف النواحي الحياتية التي يمكن إدخال الاستدامة ضمنها.
صحيح أنّ القطع الفنية المستدامة أعلى سعراً من التجارية، ولكنّ المهتمين بالفن الهادف باتوا يدركون مدى المجهود الجسدي والوقت الذي يتطلبه إنجاز قطعة ستكون فريدة ولا تشبه غيرها بشيء، ستعيش سنوات طويلة وسيتغير معناها وحتى شكلها بتغيّر السنين.
ما هو الدور الذي تطمحين إلى لعبه مستقبلًا في الإمارات، لخلق بيئةٍ أكثر استدامة؟
أتمنى الاستمرار في العمل على الوسيط المفضّل لديّ حالياً وهي الحبال، وإدخال المزيد من التجديد إليه مع المواد المستدامة التي تتواجد في الطبيعة، وأختبر إدخال الألوان الطبيعية إليه، كما أسعى على الدوامإلى رفع الوعي بالفن المستدام سواء بين الفنانين أو العامة المتابعين لأجدد المستجدات في المجال الثقافي الإماراتي والعربي والعالمي.
اقرئي المزيد: رانيا ملّي: الاستدامة ليست توجهًا سائدًا بل مسؤولية العاملين في المجال الإبداعي
















