اللقاء بالفنانة الشابة عدرا قنديل يعني التواجد في حضرة مبدعة وشاعرة وأديبة، تتقن صوغ الكلمات بشكل مبهر وآسر تماماً، يوازي شغفها الأكبر بالفن الذي أخلصت له منذ سنوات وبنت لنفسها أسلوباً خاصاً ميزها وجعلها تضيء كالجوهرة في ساحة مليئة بالفرص والأسماء وأحياناً المنافسة والعثرات. عدرا هي شريكتنا اليوم في عدد مخصص للنساء اللواتي رفعن الصوت دفاعاً عن قضايا آمنّ بها. فكيف ستعكس هذه الفكرة من خلال أعمالها الفنية؟ تعرفي عليها واكتشفي أجمل وأعمق أعمالها.
السفر هو ما جعلك تكتشفين موهبتك الفنية أو فلنقل رغبتك بالتركيز على الفن للتعبير عن أفكارك، أخبرينا المزيد عن بدايات هذه المسيرة، وكيف أثرت تجربة السفر أفكارك وعرفتك على فن الكولاج الذي بدأت من خلاله؟
كان السفر نافذتي الأولى نحو اتساع داخلي لم أكن قد لمسته من قبل. كشف لي عن رغبة خفية في تحويل الشعور إلى شكل، وفي نسج اللحظة إلى صورة. بدأت رحلتي في برشلونة، أجمّع قصاصات المجلات على أرض غرفة المعيشة، ألتقط صوراً لوجوه عابرة، وأبني من شظايا الذاكرة خيالاً جديداً. لم يخلق السفر موهبتي، بل أضاءها. منَحني فسحة من العزلة، ومساحة لأن أصغي إلى نفسي أخيرًا، فأتت الإجابات على هيئة فن، نابع من أعماق لم أكن قد دخلتها من قبل.
بدأت الفن الرقمي قبل سنوات حين كان انتشاره محدوداً واليوم نشهد حضوراً كبيراً له، لماذا أحببت التعبير من خلاله، وكيف ترين تطوره وسرعة انتشاره؟
بدأت بالفن اليدوي، ثم شعرت بحاجة لوسيط أكثر مرونة واحتواء. ظهر الفن الرقمي كمساحة تمنحني الحرية والكفاءة، دون أن تسلبني حميمية العملية الإبداعية. لم أتخلَّ عن الملمس، بل وسّعت أدواتي. أجمل ما في الفن الرقمي أنه يُرحّب بالجميع. إنه متاح، حي، وديمقراطي. رغم تطوّره، تبقى يدي في صلب كل عمل، فكل وسيلة تملك وزنها. تطوّر هذا الفن نعمة، يذكّرنا أن التعبير ليس قالباً، بل نيّة وعاطفة، تُترجمان بأفضل ما نملك.

هل يقل الاعتماد على الموهبة في هذا الفن لصالح المعرفة التكنولوجية والقدرة على التصميم والدراية ببرامجه المختلفة؟ أم يجب توافر الاثنين لكي تصل رسالة الفنان الحقيقية من خلاله؟
الفن، سواء رقمي أو غيره، يتنفس حين يتوازن الحدس مع المهارة. الموهبة تمنحه الروح، والتقنية تمنح الهيكل. أؤمن أن الفن الرقمي يتطلب الاثنين. فلا براعة تقنية تغني عن الحضور. من دون الصدق، لن يصل العمل. جمال الفن في جمعه بين الحسّ والمنهج. وعندما يتم ذلك بوعي، ينبض العمل بالصدق والحياة.
“عزيزي الحنين” أو dear Nostalgia، هو عنوان صفحتك عبر إنستغرام، في رسالة واضحة إلى أهمية هذا الإحساس في حياتك وفنك، ما هي الصور أو الذكريات التي تحنين لها من الماضي؟
“عزيزي الحنين” لم يكن اسماً بحثت عنه، بل اسماً وجدني. بدا وكأنه رسالة أكتبها منذ زمن، لا لشخص، بل لإحساس. الحنين لدي لا يتجذّر دائماً في لحظات، بل يطفو في الأجواء. في صوت الأذان قبل الفجر، في زهور الياسمين تتسلّق الجدران القديمة، في همهمة التلفاز. في صوت أبي حين أستيقظ، في سكون الغرفة بعد مغادرة أحدهم، في سجادة يدويّة يُلامسها الضوء. الحنين، بالنسبة لي، ليس ذكرى فقط. هو إيقاع، مزاج، لمسة تذكّرني بمعنى السكون، وبقيمة التذكّر في زمن سريع ينسى كل شيء.
هل يساعد الفن الذي تقدمينه في تحريك إحساس الحنين لدى الآخر؟ وما هو هدفك من ذلك؟
هذا أملي.. أن يتحوّل فني إلى مرآة تعكس ذاكرة المتلقي. عملي ليس تعليمات، بل دعوة هادئة. والسؤال الأهم: هل تتذكّر أيضًا؟ أبتكر لأفهم شوقي، لكنني أبتكر أيضاً لأمنح شيئًا ناعمًا لمن يشعر مثلي، لمن يحمل وجع الأمكنة المتغيّرة، والأصوات المتلاشية، واللحظات السريعة. إن استطاع عملي أن يوقظ شعوراً بالدفء، أو الحنين، أو الألفة، فقد أدى دوره. لست أبدع من أجل حلول، بل من أجل التذكّر.
هل تضمنين فنك رسائل واضحة أو تفضلين أن يفسره المتلقي بالشكل الذي يرغب به؟
كثير من أعمالي تبدأ كفيض غريزي، لا أفهمه تمامًا إلا لاحقًا. بعض القطع تحمل رموزًا واضحة، لكنني لا أحب حصرها بتفسير واحد. الفن، بالنسبة لي، هو رسالة بلا ظرف. حين تخرج من عالمي، لا تعود ملكي وحدي. كل من يلتقي بها، يرى فيها جزءًا من نفسه. المعنى يسكن في نظرة المبدع كما في عين المتلقّي، وأرحّب بهذا التوأم.
كيف تأتيك الأفكار الجديدة فتحافظين على التجديد والابتكار؟
تأتي الأفكار من كل شيء ومن لا شيء. من صمت الممرات، من فنجان قهوة تحرّكه جدتي، من عطر أمي على فستان استعرته ولم اعده لها. تسكن في تغريد العصافير، في لقطة فيلم باهتة. في السكون الذي يسبق الكلام، وفي نقرة شريط كاسيت عند الإغلاق. تأتي من الأحلام، من الانتباه. السر؟ أن نواصل الإصغاء. أن نُبقي عيوننا مفتوحة على التفاصيل الصغيرة. أن نبقى شهودًا، لا فقط خالقين.

لبنان ورموزه ومدته حاضرة بقوة في فنك، كيف ترين هذا البلد؟ وكيف تعكسين أهم قيمه وميزاته من خلال فنك؟
لبنان جذوري. حضن الأم والأمة، أرض نبتُّ منها، تأذّيت بها، ولا تزال تحضنني. هو خليط من الضجيج والرقة، من الفوضى والقداسة. يتألّم ويرقص. أحاول أن أُجسّد هذا التناقض بجماله. أن أُكرّم صور لبنان القديمة ونوره المتوهّج. أن أعكس انكساراته دون أن أُخفيها. حبي له عبادة صامتة، تسكن ألواني، رموزي، وملمسي. أحيانًا لا تُقال، لكنها دائماً تُرى.
ما هو العمل الفني الأٌقرب إليك، أو فلنقل الذي استغرق منك الكثير من الوقت والتفكير لتكون النتيجة نجاح فاق توقعاتك؟
“يا بيروت”، التي خُلقت في الخامس من آب بعد انفجار المرفأ، محفورة في روحي. جاءت كفيضان شعوري لا كلمات له. لا أمل فيها، فقط وجع. لكنها كانت مساحة للحزن الجماعي. الفن هنا لم يكن إلهامًا، بل تفريغًا، كان الفن حاملًا لما لم تُعبّر عنه اللغة.
إلى أي مدى تراعين الاستدامة في عملك الفني وفي اختيارك للمواد خلال العملية الإبداعية؟
الاستدامة ليست شعاراً في عملي، بل ممارسة صامتة. التحوّل إلى الفن الرقمي كان وعيًا، بعد إدراكي لما كنت أُهدر. حين أطبع، أستخدم ورقًا قابلاً للتحلّل بجودة متحفية، وأطبع بعدد محدود. أؤمن أن كل قطعة يجب أن تكون بنية. الاستدامة احترام للأرض، للعملية، ولمن سيحتضن عملي.
هل يجب أن يكون للفن والفنانين دور في توعية المجتمع حول قضايا حياتية مختلفة، أم تفضلين ان يكون دوره إبداعياً وتعبيرياً فقط؟
الفن احتفال، تنفيس، صدى. أحيانًا همسة، وأحيانًا صلاة. هو تعبير ومساهمة. تحدّثت عبره عن الوطن، والنساء، والعدالة، وأحيانًا استخدمته فقط للعب. هذا هو السحر: الفن يتّسع للدهشة، للتجريب، للبساطة. لا يحتاج الثقل ليكون عميقًا. لكنه حين يحمل ثقله، يحرّك الجبال.
مع دخولنا عصر ميتافيرس، هل أنت مع عرض الأعمال NFT وهل تؤمنين بضرورة أن تواكب الفنون التطورات في حياتنا العصرية؟
الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) تمثّل أرشيفاً حياً في الفضاء الرقمي. تمنح العمل ديمومة جديدة. لكنها لا تُلغي سحر الورق، وملمس القماش. أعيش بين العالمين، وأبتكر بنفس الجوهر. ما يُلهمني فيها هو كيف تفتح الأبواب. تقول: الفن ليس نخبويًّا. هو للجميع.
ما رأيك بالتواجد النسائي في المجالات الثقافية والفنية عربياً وكيف تصفين مشاركاتك الخارجية ودورها في إبراز موهبتك بشكل أوسع نطاقاً؟
النساء يُعدن رسم المشهد الثقافي بذكاء، بنعومة، وبإرادتهن. في العالم العربي، وجودنا لم يعد ناشئًا، بل ترسّخ. رحلاتي بيّنت لي كيف يجمع الفن بين النساء. حين تقول لي إحداهن إنها رأت نفسها في عملي، أتذكّر لماذا أفعل ما أفعل. هذا شرف. خيط غير مرئي يربطنا.

حدثينا عن تعاونك مع مجلة هيا في العدد المخصص للنساء صاحبات الصوت الصادح والقضايا الكبيرة التي يكافحن من أجلها؟
هذا التعاون مع مجلة هيا هو احتفال، بالنسوة، بالتعبير، وبالصدق. أن أكون الراوية البصرية لعدد يحتفي بالقوة من خلال الرقة يعني لي الكثير. تحمل هيا أناقة ونيّة، وهذا يعكس رؤيتي الإبداعية. هو تردّد مشترك. خَلْق جماعي. صوت مرئي منسوج من عدّة قلوب.
كيف ستعكسين فكرة الكفاح من أجل ما نراه مناسب وصحيح، من خلال أعمالك الفنية على صفحات هيا؟
النضال لا يعني دومًا الصراخ. أحيانًا، هو عودة للذات، وللوضوح. مشاركتي في هذا العدد ستكون جذريّة، مشعّة، حقيقية، لكن دون صدام. ستحاكي أنوثتنا بصريًا. لا المعركة، بل الحلم بعدها. عالم لا نعتذر فيه عن حقيقتنا. بل نخلق له حيّزًا، ونعيش فيه بلا تردد.
ما هي القضية الاجتماعية أو الإنسانية التي تعنيك أكثر من غيرها؟
في داخلي التزام بثلاث قضايا متشابكة: لبنان، وحقوق النساء، وحرية فلسطين. فلسطين قلب مقدّس، رمز للكرامة والصمود والحرية. وجعها والأمل بعودتها يتسرّبان في عملي. لكن لا أستطيع الحديث عن الحرية دون لبنان. لبنان السمو والجمال، ولا عن الأنوثة، التي تُنجب أوطانًا وثورات. هذه القضايا ليست منفصلة. إنها خريطة.
حدثينا عن أجدد مشاريعك للفترة المقبلة من العام؟
هناك موجة من المشاريع تتكشّف الآن، عوالم متعددة التخصصات، وأفكار تتجاوز الجغرافيا. أتعاون مع علامات تجارية تربيت عليها، ومنصات تدفعني للحلم أبعد. كل مشروع يختلف، لكنه يشترك في أمر: في الحب، في الخوف، في النشوء. لن أكشف الكثير، فالمفاجأة قصيدة بحد ذاتها. لكن ما هو آتٍ محبوك بالذاكرة، بالحركة، وبالنية.
اقرئي المزيد: عليا النيادي:ما كنتُ لأصل لولا الفرص التي منحتني إياها الإمارات